ثوراتنا تنشد السعادة وإيران تهدينا الموت

2019.12.14 | 19:27 دمشق

images_18.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا كنت مواطناً سورياً أو عراقياً أو لبنانياً.. فما الذي تريده حقاً؟ ما الذي تتمناه لنفسك، لأسرتك، لأحفادك؟ ما الذي تسعى إليه؟

بكل بساطة، هناك كلمة واحدة: السعادة. أو على الأقل: الحق بالبحث عن السعادة. أي أن تنعم في حياتك بشروط الأمان ومقومات العيش الكريم وسيادة العدالة. وإذا كان هذا الطموح مشتركاً بين عموم السكان، جاز تخيل "الدولة" بوصفها التعبير الجمعي عن هذا الطموح، والمؤسسة المناط بها تدبير "الأمان" و"العيش الكريم" و"العدالة".

ويمكننا أن نبني على هذا الافتراض، أن هؤلاء السكان "ينتخبون" من سيمثلهم انتداباً لتسيير الدولة وإداراتها. وهكذا نفترض انبثاق السلطة من إرادة انتخابية لا بد أن تكون إرادة حرة.

لكن، وإذ نتحدث سورياً أو لبنانياً أو عراقياً (وعربياً إجمالاً)، ليس عسيراً علينا اليوم القول

نشهد اليوم عداوة بين السواد الأعظم من السكان ودولتهم المغتربة عنهم والجاثمة استبداداً عليهم وفتكاً بهم

 إن إرادة المواطنين وحقوقهم هي على النقيض من إرادة السلطة. بل إن هذه السلطة هي بحكم المستولية على الدولة. إذ تصادرها وتمعن في حجزها عن مواطنيها وضدهم.

على هذا، نشهد اليوم عداوة بين السواد الأعظم من السكان ودولتهم المغتربة عنهم والجاثمة استبداداً عليهم وفتكاً بهم. ورغم التفاوت في نسبة الاستبداد والعداوة، بتفاوت حرارة أو برودة "الحرب الأهلية" (وكلمة "أهلية" ليست دقيقة هنا) في كل بلد من هذه البلدان، إلا أن المعضلة الأصلية تظل واحدة: حرمان السكان من حقوقهم الأساسية.

رغم كل المحاولات الناجحة ميدانياً ودعائياً في "شيطنة" الثورة السورية و"دعوشتها"، إلا أن حقيقة وقوف الملايين من السوريين خلف ثورتهم حتى اليوم وما بعد نكبتهم الكبرى، وبقاء تلك الثورة بكل شعاراتها وكل مطالبها بوصفها الاقتراح الوحيد والبديهي والطبيعي للمستقبل، وأن لا سوريا ممكنة لكل السوريين إلا بتحقيق أهداف الثورة، هي الحقيقة السياسية التي لا محيد عنها. حقيقة استعادة الدولة والتخلص من النظام.

ما يحدث في العراق، هو أن شطراً راجحاً من السكان، انتفض على سلطة استولت على الدولة ومواردها وأمعنت في صنع التناقض الصارخ بين مصلحة المواطنين ومصلحة أهل السلطة. وينطبق هذا الوصف إلى حد بعيد على الحال اللبنانية. أي فقدان السلطة للشرعية أو للتفويض الشعبي.

في الحالات الثلاثة السورية والعراقية واللبنانية، تستمد "السلطة" قوتها وأسباب سيطرتها من سلطان إمبراطوري، أي من قوة قاهرة غير محلية، هي إيران (بالشراكة مع الإمبراطورية الروسية في سوريا). والدولة الإيرانية توسعية في برنامجها، وتعتنق عقيدة "المجال الحيوي"، التي استخدمها هتلر لاحتلال تشيكوسلوفاكيا والنمسا وبولندا، واستخدمها ستالين بضراوة مشابهة، كذلك الحال الإمبراطورية اليابانية..إلخ. ولا تتورع الدولة الإيرانية عن التعبير عن هذه العقيدة المسنودة ببرنامج نووي من ناحية، وبإيديولوجيا دينية تعبوية وحربية.

بسبب هذه القوة الإمبراطورية القاهرة، التي تبرع وتحترف العنف على نطاق واسع، وتمتلك خبرة "إرهابية" هائلة، وجدت الثورات الشعبية في المشرق العربي استعصاءها الكبير. فهي اكتشفت أنها لا تواجه سلطة محلية وحسب، بل دولة إقليمية كبرى متعددة الجيوش والميليشيات ولديها امتداد استراتيجي وشبكة مترامية من خطوط الإمداد والتمويل والسلاح، قادرة على سحق أي تمرد "موضعي"، وقادرة على تجنيد فيالق متعددة الجنسيات.. والأهم قادرة على توفير خطاب إيديولوجي لارتكاب الجرائم إلى حد الإبادة.

نجحت إيران إذاً في خطف الدولة العراقية من العراقيين ونصبت عليهم سلطة تستمد شرعيتها من الولاء السلطاني لا من التمثيل الانتخابي الوطني. وهذا حال لبنان، وإن اختلفت التفاصيل أو درجة العنف. فقد حولت إيرانُ العصبيةَ الدينية الشيعية في البلدين إلى ما يشبه الحصن الإسبارطي الجاهز للحرب لا لشيء آخر. عصبية تتنكب ديمومة خطف الدولة ورهنها ضمن "المجال الحيوي" للمركز الإمبراطوري. أما في سوريا، فكان الحال أكثر مأساوية بكثير، إذ إن العداء بين السلطة والمواطنين سابق بكثير على ظهور المشروع الإمبراطوري الخميني، وقد تطوع "النظام" بذاته إلى تدمير المناعة الوطنية والسيادة واستباحة سوريا لكل الطموحات الإمبراطورية المتعددة، بما في ذلك الاقتراح البائس لما سمي "إدارة التوحش" ودولة الخلافة الداعشية. لا لشيء إلا رفضاً للتنازل عن السلطة.

الثورات إذاً تواجه استعصاء مريعاً، في حين الإمبراطورية ليست بوارد

الشعوب التي يتحكم بمصيرها اليوم الحرس الثوري الإيراني، ليس أمامها أي من طموحات الأمان أو العيش الكريم أو العدالة

إقامة دولة السعادة والرفاه حتى في أرضها الإيرانية نفسها، على ما يخبرنا إياه الإيرانيون أنفسهم منذ 2009 وحتى شهر مضى. أما المشهد العراقي والسوري واللبناني (واليمني أيضاً) فلا يحتاج إلى تمحيص وتدقيق، إذ يُختصر بكلمتي: الدمار والجوع.

فالشعوب التي يتحكم بمصيرها اليوم الحرس الثوري الإيراني، ليس أمامها أي من طموحات الأمان أو العيش الكريم أو العدالة. بل فقط العوز والإفقار والحروب الأهلية والقتل العمومي اليومي والفوضى وما لا يحصى من أنواع الشرور.

ليست إيران كما الاتحاد السوفياتي. فالأخير والشعوب التي كانت منضوية فيه والبلدان القابعة تحت نفوذه، خصوصاً أوروبا الوسطى، كانوا يتحلون بمرجعية قيمية عقلانية. ومن ثورة بودابست 1956 إلى ثورة براغ 1968 إلى ثورة "تضامن" ببولندا المبتدئة عام 1980، أدرك الاتحاد السوفياتي، رغم وجاهة الوعد الاشتراكي، أن أي إمبراطورية تفشل بوعد السعادة مصيرها الهلاك.

فداحة إيران الخمينية وقسوتها أن وعدها يقبع في الميتافيزيق، في الغيب الذي لا ندركه إلا بالموت. لذا، لا شيء ملحّ إنسانياً اليوم سوى وأد هذا المشروع الظلامي، خلاصاً لشعوب منطقتنا وللشعب الإيراني أيضاً.