ثوب العيرة لن يدوم

2018.11.26 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

       القضية السورية ليست بيد السوريين. من لحظاتها الأولى، خرج الصراع من يد السوريين. كان ذلك في مصلحة النظام الحاكم، ولم يكن في مصلحة المحكومين الذين أرادوا تغييراً يطال السلطة. ولو لم يتسع الصراع، لحُسِمَت الأمور مبكراً، ولصالح الشعب السوري؛ ولما فقدت سوريا مئات الآلاف، ودُّمِرَ نصفها. شعبها هو الذي خسر، لأنه "أم الصبي"؛ ولكن السلطة الحاكمة لم تكترث إلا بالبقاء؛ وحصلت عليه؛ لكنه يبقى مؤقتا، ريثما تُصفّى الحسابات الدولية. السلطة خسرت البلد كما خسره الشعب؛ ولكن الشعب قابلٌ للعودة إلى الحياة؛ أما هي فذلك مستحيل.

       لم يختر شعب سوريا الثمن الذي دفعه من أجل إحداث التغيير ونيل الحرية؛ ولكن النظام اختار بوعي وتخطيط أي ثمن سيدفع من أجل البقاء (حتى ولو مؤقتاً). مَن دفّع الشعب هذا الثمن الغالي كان النظام، وما استخدمه من أدوات ومخططات وذرائع؛ ولكنه عملياً كان شريكاً بالخسارة؛ لأن الشعب ذاته كان جزءاً من رأسمال النظام بحكم عقلية المزرعة في الحكم. ورأينا النظام في وقت من الأوقات يكتفي بالجزء "المنسجم".

       حتى الخسائر التي ترتبت على دمار البلد وأهله، واشتراك النظام بتلك الخسارة، لم تكن كافية لإعطاء النظام كل هذا الوقت في السلطة. لقد خلق النظام

 الوظيفة الأهم التي قام بها النظام كانت زج إيران في القضية السورية. حقيقة لم تكن إيران بحاجة إلى مشجع أو جاذب لها للتدخل في شؤون سوريا، بل كان ذلك جزءاً من مشروعها في المنطقة

لنفسه مهمات ووظائف جديدة ساهمت بامتداد عمره كل هذا الوقت. كان على رأس هذه الوظائف زج "حزب الله" في الدم السوري؛ فبعد أن كان حزب الله "أيقونة" لكثيرين في العالم العربي والإسلامي-  فإن إدخاله كقاتل للشعب السوري (رغم الدعاية المعاكسة) يعني الكثير وثمنه كبير- ليس فقط بالنسبة لأمريكا وإسرائيل وغيرهم- بل نهاية وسقوطاً لتلك "الأسطورة". وكان لذلك ثمن ساهم بإعطاء النظام بعض حماية، ومدّ بعمره.

       الوظيفة الأهم التي قام بها النظام كانت زج إيران في القضية السورية. حقيقة لم تكن إيران بحاجة إلى مشجع أو جاذب لها للتدخل في شؤون سوريا، بل كان ذلك جزءاً من مشروعها في المنطقة؛ إلا أن ذلك التدخل؛ الذي كان بمثابة شهر عسل في عهد إدارة "أوباما"- حيث ضخت مليارات الدولارات من أجل بقاء نظام الأسد- بدأ يتحول إلى عبْ وكابوس في عهد إدارة "ترمب". الكل يكسب من التدخل الدموي الإيراني في الشأن السوري وعلى رأسهم نظام الأسد الذي يلعب بالورقة الإيرانية ليوازن وضعه مع الروس وليسحق شعبه ميدانياً وليعيش مادياً ونفطياً وداعشياً. والآخرون يكسبون من استنزاف إيران؛ وروسيا تكسب من دخول إيران توازنا تجاه أمريكا وإسرائيل وتركيا؛ ولكنها تخسر بمزاحمة إيران لها في المكاسب من الميدان السوري؛ أما الكاسب الأكبر فهو أمريكا من تطاحن الجميع مع بعضهم البعض؛ ويرافقها نظام الأسد مكسباً بسبب اتساع رقعة الصراع وتعدد أطرافه. ويبقى الخاسر الأكبر من كل ذلك الشعب السوري، الذي لا يأتي ضمن حسابات أحد.

يعرف نظام الأسد حاجة روسيا إلى القفز من ملفاتها المعقدة إلى مكان تأخذه رهينة يمكنها المساومة عليه مقابل كل تلك الملفات. ومن هنا، هيأ النظام نفسه لخرط روسيا وجذبها إلى الملف السوري، كي يشكّل حصانة تحمي جرائمه. لم يقلقه فقدان السيادة؛ ولا إقامة روسيا قواعد عسكرية شبه دائمة في سوريا، ولا تحكم روسيا بمختلف مجريات حياة النظام عسكرياً وسياسيا وإدارياً؛ طالما يمنحه ذلك البقاء يوماً إضافياً. والآن وبكل

هذا الفيتو يُسجَّل في سجل موسكو كحامية للجريمة. وهذا ليس بالأمر السيء لجهة تسجيل النقاط على موسكو، الأمر الذي يفرح أعداءها

براعة الخبثاء يدفع روسيا باتجاه إقناع العالم أنه بصحة جيدة ويمكن إعادة تأهيله مراهناً على رخاوة العالم وعناد موسكو ومطامعها.

الأهم من ذلك يتمثل بفهم وترجمة الغرب لهذه المهمة التي يقوم بها النظام عبر زجّه روسيا بما يؤثر سلباً على سجلها من خلال جعلها تبرر وترافع عما لا يمكن المرافعة عنه أو تبريره. فأفعاله وراء هذا العبث الروسي؛ وهو وراء استخدام موسكو للفيتو أكثر من عشرة مرات من أجل حمايته من الإدانة على جرائم ارتكبها؛ ولكن هذا الفيتو يُسجَّل في سجل موسكو كحامية للجريمة. وهذا ليس بالأمر السيء لجهة تسجيل النقاط على موسكو، الأمر الذي يفرح أعداءها. والجهة المنفذة للمهمة أو المتسببة بهذا السقوط الأخلاقي لروسيا هو النظام.

الأيام الزائدة بعمر هذا النظام -على أي حال- رهنا بأيدي الآخر ومصالحه. فالبقاء أو الاستمرار ليس بفعله أو قوته الذاتية. إنه بفعل الآخر ومصالحه، إنه البقاء على الركام بفعل روسي- إيراني؛ ولكن ثوب العيرة هذا لن يدوم.