ثقافة "داعش" ما تزال سارية بيننا

2020.01.01 | 17:53 دمشق

thqaft_dash.jpg
+A
حجم الخط
-A

بداية لا بد من القول إن أيّ عمل يقوم به الإنسان فرداً كان أم جماعة لا بد له من أساس فكري يستند إليه، وبخاصة إذا كان العمل يمس حياة الإنسان كلها، فذلك ضروري لتقوية همة القائم بالعمل ولتعميق ثقته بصحة ما يفعله وصوابه، وليأتي العمل، في النهاية، على تمامه وكماله! ومن هنا أريد أن أستعرض جزءاً يسيراً من واقعنا الفكري/الثقافي العام، وارتباطه بقضايانا الوطنية وانتمائنا عموماً، وانعكاس ذلك على حياتنا..

ولعلَّ ما يدفعني هما مقالتان قرأتهما على شبكات التواصل الاجتماعي هما أقرب إلى الخبرين أو الوثيقتين الأولى منهما لبروفسور إسرائيلي يدعى "إيال زيسر" يعرف بأنه (مستشرق) وقد نشرتها، صحيفة "يسرائيل هيوم"، كما يقول صاحب الخبر الذي نقله عن موقع إحدى الفضائيات العربية، ويزعم البروفيسور الإسرائيلي بأن هناك مخططاً أمريكياً إيرانياً يهدف لـ "اقتلاع السُنة" من سوريا والعراق وربما من المنطقة كلِّها. (أُذَكِّر بأنَّ دولة البغدادي قد أقيمت في هاتين الدولتين)، هكذا وبكل ثقة وقناعة تامتين، يكشف البروفسور الإسرائيلي ذلك المخطط الرهيب.. ويبدو أنَّ النقل عن الإسرائيلي يعني للناقل، فيما يعنيه، قوة المحتوى، ولعله أيضاً يرى في المصدر الإسرائيلي: "الصدق والبراءة والنزاهة وربما نصاعة الحقيقة، والغيرة على أهل السنة". ولم يقتصر أمر النقل على شخص واحد إذ تلاه آخرون في نقل هذه المادة الداعشية بامتياز من "أبطال" شبكات التواصل وصفحاتها المتعددة الأمر الذي يعني أن وراء الأكمة ما وراءها.. ولعلَّ أهم ما يريده الناقل هو أن تسري هذه المعلومة في أذهاننا ويترسخ محتواها إذ يؤكدها الناقل برأي له مستقل عن الخبر الأساسي يرى فيه أنَّ الغاية النهائية لذلك المخطط هي: "إجهاض أية صحوة سنية تؤدب الشيعة بعدما امتدت أيديهم إلى مقدساتنا، لأن إنكار الصفة السنية يشكل محاولة لخلط الأوراق ومنح الشيعة مزيداً من الوقت لينفردوا بنا واحداً بعد الآخر،" ويتابع: "أقول وبوضوح إن الحرب اليوم هي حرب طائفية يقودها الولي الفقيه، ومعه كلُّ الشيعة (لم يستثن أحداً منهم) في العالم في إطار تحالف استراتيجي مع الغرب والناتو لإبادة العرب السنة واحتلال الكعبة.."

جوهر الصراع الدائر في المنطقة اليوم هو بين السنة والشيعة، فلا ثورات، ولا نزوع نحو الحرية، وكذلك لا سعي إلى الديمقراطية

إذاً فجوهر الصراع الدائر في المنطقة اليوم هو بين السنة والشيعة، فلا ثورات، ولا نزوع نحو الحرية، وكذلك لا سعي إلى الديمقراطية، وبالتالي ما جرى في المنطقة، وسوريا منه في القلب، تحت مسمى ثورات الربيع العربي ضد الحكام المستبدين الذين صادروا حقوق مواطنيهم كاملة، وانهزموا أمام عدوِّهم الإسرائيلي الذي يأتي مثقَّفُه اليوم ليصرف أنظارنا عن مقاومة الاستبداد، والتمكين لإسرائيل بتأكيد أنَّ الأخطار لا تأتي منها بل من الشيعة التي تحتاج إلى "تأديب.." كما يرى ناقل المقالة..!

بداية بالنسبة لي، على الأقل، لا أميز بين الخطرين الإسرائيلي والإيراني على العرب والمسلمين عموماً، ولا أنكر أن هناك مظاهر طائفية برزت هنا وهناك في الدعوة إلى التشيُّع، وإقامة الحسينيات عن طريق استغلال الوضع المادي للفقراء، وأعرف أن هناك من حصل على الجنسية السورية من المرتزقة الشيعة التي تحارب إلى جانب إيران، وأن محاولات تغيير ديمغرافية قد حصلت في سوريا تحدث عنها رأس النظام السوري حين أشار إلى كثرة المهجرين، وعدَّهم خصوماً له، ودعا إلى فكرة "التجانس" وباركها! لكن تلك التغيرات، كما حديث بشار الأسد، غير ثابتة فالكل مرتبط بما تؤول إليه الثورة السورية التي لابد أن تستفيد من أخطائها وتعود إلى شعاراتها الأولى ولا بد أن يأتي الظرف المناسب لذلك فقضايا الشعوب لا تموت، ولكن الأهم، ورغم كل ما تقدم، يبقى سؤال ما جوهر الصراع في المنطقة قائماً. فهل هو صراع طائفي حقاً؟! إذا كان جوابنا بالإيجاب فهذا يعني أن لا ثورة على استبداد ولا يحزنون.. وأعتقد أن هذا ما تبتغيه إسرائيل ذاتها، إذ إنها لا ترغب أن يكون في جوارها بلدان تمارس الديمقراطية، وتنمي بلدانها وشعوبها على أسس حضارية، وأنها لم تكتف بما حصل لكل من سورية والعراق من تدمير وتشتيت شعبيهما في أصقاع الأرض، ونهب خيرات بلادهما ومعاناتهما ألوان الآلام والأحزان من فقدٍ وفقر وتشرد.. بل إنها تسعى إلى تفتيت البلدان المحيطة بها بإشعالها حروباً أخرى تحقق هدفها النهائي وتحفظ أمنها الإسرائيلي المزعوم..

وبخاصة شعار الحرية الذي ينطوي على النضال ضد الاستبداد وضد التوغل الأمني وضد الفساد ونهب المال العام ومن أجل التنمية التي تؤمّن حياة هانئة مستقرة لكل السوريين وكذلك ضد التدخل الأجنبي سواء كان ميليشيا أم جيشاً أجنبياً على هذا الجواب يتوقف الكثير وأعتقد أن الشباب العراقيين الذين يملؤون ساحات المدن العراقية وشوارعها اليوم هؤلاء الذين جعلوا قلوب حكامهم الطائفيين تهتز خلف كراسيهم قد أجابوا على هذا السؤال بدمائهم وشعاراتهم المتمسكة بهويتهم الوطنية العراقية العابرة للطوائف والقوميات..!

لا أريد الاستفاضة بما قد يجرُّ علينا هذا التفكير من ويلات، فنحن الآن، ومن خلال التجربة قد صرنا على قناعة ببطلان هذه الدعاوى ولعلَّ أغلبيتنا الآن على قناعة بأن المشروع الإيراني هو مشروع فارسي يحلم باستعادة الإمبراطورية الفارسية التي كانت قبل مئات من القرون وأسقطها العرب المسلمون وهم بذلك وجه للاستعمار الذي وجد العرب والمسلمين على حال من الفرقة وتبديد الثروات وعمق الهوة بين حكامهم وشعوبهم فاستغلوا الواقع القائم وقد وجدوا الغطاء الديني/الطائفي مدخلاً مناسباً إضافة إلى شعارات ضد إسرائيل وأمريكا وإلى جانب القضية الفلسطينية وكلاهما قابل للتجارة والربح رغم أننا لم نجد على أرض الواقع غير الجعجعة..!

سوريا لم تكن في تاريخها ذات لون واحد أبداً

أما المقالة الأخرى فأود التحدث عنها بإيجاز إذ هي تأتي في السياق نفسه، لكن من جانب آخر، وقد سرت أيضاً، على شبكات التواصل فهي إحصائية عن الكرد السوريين تقلل من وجودهم السوري، بل تكاد تمحوه كلياً فلا أكراد إلا في منطقة عفرين الذين كانوا في سنة كذا يُعدُّون بالآلاف القليلة أما بقية الأكراد فعدة عائلات في دمشق ومثلها في بعض المحافظات السورية، وما تبقّى فقد هاجر منذ وقت قريب من هذه الدولة المجاورة أو تلك.. وبذلك تخرجهم الإحصائية كلياً من وجودهم التاريخي في وطنهم السوري، وتشعل معركة قومية تضيف إلى الطائفية سعاراً آخر.. ومعلوم أنَّ سوريا لم تكن في تاريخها ذات لون واحد أبداً، بل على العكس تماماً.. ولعلَّ جمالها كوطن عالمي يعود إلى تلون ذلك النسيج وهندسته (يذكر أن اسكندر المقدوني عندما فتح سوريا عام 333 قبل الميلاد وشرب من نبع ماء في مدينة أنطاكية قال: "ماء هذا النبع يذكرني بحليب أمي.. سوريا هي وطني الثاني". ثم جاء عالم الآثار الفرنسي "أندريه بارو" ليقول: "لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان؛ وطنه الأم وسوريا").

ما أردت من كل ما تقدم هو أن الثورة باقية ما بقيت فكرتها وفلسفتها، وبعدها الروحي. وأن غياب الفكرة الرئيسة والجري خلف تفرعات ثانوية لا يضعفها فحسب، بل ربما يضيعها كلياً.. فكم حاربها خصومها على أنها ليست بثورة، فلا فكر لها ولا رأس يقودها، وأنها تنتمي إلى الدين الفلاني، والطائفة الفلانية، ويطمسون مفردة الحرية التي تفضح كل سوءاتهم، إذ تنطوي على معاني كثيرة لا تجد تحققها إلا في دولة المواطنة الحقيقية التي يكون الفرد فيها متمتعاً بكامل حقوقه الإنسانية أولاً ثم الوطنية ولا يتحقق ذلك إلا في ظلِّ دستور جامع يأخذ بالحسبان ذلك التنوع الوطني السوري الذي يمكن لمواهب أبنائه أن تتفتح إبداعاً على غير صعيد، يغني الوطن ويزيده ثراء إذ يتجاوز كل تمييز بين مواطنيه، مهما كانت مبرراته.. فما جاءت الثورة إلا لإلغاء التفرقة والتمييز وتحقيق شعار سوريا للسوريين أجمعين..