ثقافة "التمجّد" ما زالت تقاوم

2022.07.07 | 07:02 دمشق

استبداد
+A
حجم الخط
-A

في ظل الاستبداد، يصبح من الطبيعي أن يكون أغلبية أسرى الاستبداد من أتباع نهج "التمجّد" في علاقتهم بالمستبد أو ببلاط المستبد أو حتى بأصغر أعوانه. وقد عرفّ عبد الرحمن الكواكبي في كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" هذا التمجّد بأنه: "لفظٌ هائل المعنى، خاصٌ بالإدارات المستبدَّة، (...) وهو أن يصير الإنسان مستبداً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم. (...) وهكذا يكون المتمجّدين أعداء للعدل أنصاراً للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة".

التمجّد طبع بشري لا ينحصر في حلبة الاستبداد لكنه يظهر فيها أكثر وقاحةً وضررا. وفي المشهد السوري، تعود ممارسة التمجّد إلى قرون غابرة لا تتسع المجلدات لحصر أبرز شخوصها ورموزها وممارسيها. وما يهم الباحث السياسي هو التوقف عند التمجّد في المشهد العام في ظل الأنظمة الاستبدادية أو التسلطية. فقد حفل القطر السوري بممارسات من شتى الأنواع للتقرب من الحاكم أو رجل السلطة. فتروى الحكايات عن سفر "أعيان" سوريين لملاقاة المفوض الفرنسي إبان الانتداب على سوريا ولبنان المعين حديثاً في الباخرة التي كانت ستسافر به من مرسيليا إلى بيروت. ونجد في وصف هذه الرحلة مشاهد ترسّخ مفهوم التمجّد في أوقح تعبيراته. وكل هدف هؤلاء الأعيان، كان يتجسّد في نسج الخيوط اللازمة والتي توصلهم بصاحب الأمر لكي يستفيدون منه ومن سلطته ـ أو هكذا يظنون ـ في أعمالهم التجارية والمالية، ليصبحوا مقاولو الانتداب.

وعلى الرغم من أن الدولة الوطنية التي تلت استقلال البلاد قد أثّرت إيجاباً في تغيير مثل هذه الممارسات إلا أنها إجمالاً تغيرت شكلاً وحافظت على مضامينها الانتهازية والنفعية بقدر الممكن. وشهدت الانقلابات العسكرية وما تلاها من وحدة مع مصر، غياباً لدولة القانون وسطوة لسلطة الدولة أو النظام، مما أعاد الروح إلى مدرسة التمجّد التي صار لها مشاربها ونظرياتها. وترسّخت ثقافة التمجّد لدى أسرى الاستبداد ومن في حكمهم مع وصول حزب البعث إلى الحكم وخصوصاً، مع ما سُمي بالحركة التصحيحية التي أتت بأسرة حاكمة حولت البلاد إلى نظام الجملكية.

انتشرت ثقافة التمجّد لتتصاعد باتجاه كل أفراد الحاشية تبعاً لمناصبهم واستناداً إلى المدرستين الستالينية والكورية الشمالية في ترويض أسرى الاستبداد

انتشرت ثقافة التمجّد لتتصاعد باتجاه كل أفراد الحاشية تبعاً لمناصبهم واستناداً إلى المدرستين الستالينية والكورية الشمالية في ترويض أسرى الاستبداد. وجرى تنظيم التمجّد بمنهجية دقيقة وبإشرافٍ حكيمٍ لامست نعومة أظافر الأطفال لترافقهم في نموّهم وتمنع نماءهم. وصار التمجّد عملة صعبة من حيث النتائج ورخيصة من حيث الممارسة. فإن كان جيلٌ بكامله على أقل تقدير قد كبر وهو يردد شعارات من نوع "إلى الأبد وإلى ما بعد الأبد يا قائد البلد"، فهو قد شبّ وشاب في ظل قوانين فيزيائية تحطم القواعد العلمية المعروفة وتحدد الأبد وما سيليه لتحصره بالقائد الأحد أو من يراه هو مناسباً ليحوز على العبادة الفردية الملائمة. 

مع "التحديث والتطوير" والسعي إلى انفتاح عشوائي وفوضوي "منظم" للاقتصاد بحيث يُصبح في خدمة كتلة تسلطية دوناً عمن لا يحظى برضاها ويستمتع بمشاركتها في الأرباح ويغفل النظر عن ضرورة مشاركتها في الاستثمار الذي يؤدي إلى تلك الأرباح، ومع تطور نظم المعلوماتية، وهي من أهم منجزات هذا التحديث وذلكم التطوير، صار التمجّد يخرج عن إطاره الشمولي التقليدي والكاريكاتوري المستمد من أنظمة انهارت أو هي في طور الانهيار، وسعى إلى تطوير ذاته مرتدياً لباس اللبرلة والانفتاح عبر مؤسسات تسلطية نسخت في عناوينها مفردات غير تسلطية، كالتنمية البشرية والمجتمع الأهلي. إلخ.   

وحتى من حسب نفسه أو هو حُسب على معارضة سياسية مهما كانت هوامشها، فقد كانت مفردات التمجّد ترد في خطابه عن وعي أو دون وعي. فصار التلميذ يتمجّد بمعرفته اللصيقة بالأستاذ الذي بدوره يتمجّد بقربه من الموجه والذي بدوره يتابع السلسلة وصولاً إلى القرب من محافظ أو رئيس فرع أمن عليه أيضا أن يتمجّد لمن يجلس فوقه فعلياً أو نظرياً، وعلى ذلك، فقسّ. واقتحمت مفردات التمجد الأدب وجميع الإنتاجات الفكرية، كما اقتحمت أحاديث الأسر والأفراد العاديين. وانتقل التمجّد من مجرد ارتباطه بصاحب السلطة إلى التمجّد بالتقرب من نادل المطعم أو حتى عامل النظافة الذي يمكن له أن يودي بك إلى غياهب السجن بقصاصة ورق صغيرة.

استمر نمو ثقافة التمجّد مرسخاً مفرداتها حتى قامت ثورة الكرامة. الثورة التي اعتقد كثيرٌ من السوريين في بداياتها بأنها ستخلّصهم من الاستبداد الذي عانوا منه منذ خمسة عقود عل أقل تقدير. وقد كان من أهم دوافع خروج بعضهم محتجين، هي حالة الزواج شبه الكاثوليكي القائمة بين ثقافة التمجّد وثقافة الخوف. ومع تطور مجريات الثورة وتطور القائمين عليها طبيعياً أو استثنائياً، عادت ثقافة التمجّد لتجد لها مرعى خصب في ممارسات السياسيين والعسكريين والمجتمعيين فيها. وعادت مفردات هذه الثقافة لتسيطر على لغة العامة والخاصة فينا. إن كان الاستبداد "يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده ويغالب المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد"، كما قال الكواكبي، فمتى للسعي إلى التحرر منه أن يعيد مكانة المجد؟

كلمات مفتاحية