icon
التغطية الحية

توقف "الآن" وعطالة الأمل.. عن مفهوم الزمن وإرهاصاته

2022.01.01 | 04:19 دمشق

slfadwr-_alzmn.jpg
لوحة إصرار الذاكرة لسلفادور دالي
+A
حجم الخط
-A

ينهي الكاتب السوري عدنان العودة مسلسله (أبواب الغيم) بسؤال ملتبس، فحين تسأل (الليدي جين) الحفيد (عودة) عن حقيقة القصة الطويلة التي رواها عن حياة أهله في صحراء الحماد يجيبها عودة: "وش تفرق؟". لم يبد الجواب اعتباطياً بقدر ما عبر عن فراسة البدوي وحركية حياته بين الحل والترحال، لكن ما سبقه من تقديم لرغبة البطل (عودة) في الذهاب وراء الغيم قد يحيل إلى عمق أبعد أراده الكاتب؛ ألا يطلق العودة حكماً على الماضي بعبارته "ما الفارق؟". الماضي الذي هو المكون الأكثر تحقيقاً من مكونات الزمن- أو أثر الزمن، وكذلك ألا تشير رغبة البطل في الذهاب وراء الغيم إلى جنوح للخلاص من تجربته القاسية المحكومة بالبدايات والنهايات إذا ما حمّلنا (أبوال الغيم) رمزية الأخروي ذي الديمومة؟

الزمن.. اختلافٌ في الرؤى

الزمن مفهوماً واصطلاحاً كان وما زال محل اشتباك وافتراق آراء الفلاسفة والمناطقة من العرب وغيرهم منذ العصور الأولى إلى الوسيطة إلى المعاصرين منهم، وهو الذي قال عنه القديس أوغسطين: "ما هو الزمن إذن؟ إذا لم يسألني أحد فأنا أعلم، وإذا رغبت أن أشرحه لسائل ما، فأنا لا أعلم".

أليس هذا إحساس كل واحد منا تجاهه؟ نحن الذين نعيشه ونعرفه ويمتزج بحياتنا كالهلام، لكنه سحري أكثر مما هو معقول، والفلاسفة ذهبوا إلى رؤى شتى فيه، فمنهم من جعل له جوهراً ومنهم من نفاه عنه، ومنهم من أرجعه للحدس ومنهم من أرجعه للذهن والتصور، ومنهم من ربطه حتماً بالحركة كمّاً أو عدداً، ومنهم من جعله قابلاً للقسمة ومنهم من رأى غير ذلك، وقُسم الزمن إلى ماضٍ ومستقبل في لحظة مرور غير ممتدة عبر (الآن)، على أنه جريان متعاقب ومستقيم نحو الأمام، والزمان الدنيوي محكوم بالموجودات/المخلوقات يظهر عبر التغيرات الحاصلة فيها وعليها، ولكل موجود زمنان، الأول خاص في جوهره، والثاني عام من خارجه، أما الزمان الأخروي فهو غير محكوم ببداية ونهاية، وقد اعتبره أبو بكر الرازي من القدماء الخمسة وهي: "الله، الهيولى، الخلاء، الزمن، النفس (الضد)"، أما ابن خلدون في مقدمته فأشار إلى حركة دائرية متعاقبة للزمن ملمحاً إلى سمة تقدمية أصيلة فيها، فهي حركة أشبه ما تكون بلولبية، ويذكرني ذلك بالـ "الممر اللولبي" في جدارية محمود درويش.

الزمن.. أنواعه وإرهاصاته

أما الزمن والزمان لغة فهو الوقت كثيره وقليله، والفصل من فصول العام، والفترة من الوقت تتميز بوقوع أحداث معينة، وفي هذا المعنى فإن الزمن المقاس بحركة الأرض بالنسبة لنفسها أو للأجرام من تعاقب الفصول والليل والنهار ما هو إلا (الزمن الاجتماعي) الذي خلقه الله واعتمده العقلاء والحكماء تسهيلاً لحياة الناس ومنه قوله تعالى: {والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب}. ولأن الشيء بالشيء يذكر فللزمن أنواع، منها الخاص والعام والاجتماعي والمطلق والميتافيزيقي والأسطوري، ونجد في العقد الفريد من باب (تقلب الزمن) قول أبي مياس الشاعر: "إنما الزمن وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله"، ثم أنشأ يقول:

"يقولون الزمان به فسادٌ

وهم فسدوا وما فسد الزمان".

ونذكر قصة مسلم بن يزيد بن وهب حين دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: "أيّ زمان أدركت أفضل، وأيّ الملوك أكمل؟" فقال: "أما الملوك فلم أر إلا حامداً أو ذامّاً، وأما الزمان فيرفع أقواماً ويضع أقواماً، وكلهم يذمّ زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرّق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم"، ومثله قول الحكيم: "جبل الناس على ذمّ زمانهم وقلة الرضا عن أهل عصرهم".

الزمن ما هو إلا الحاضر، وللحاضر أنواع: حاضر الماضي وهو الذاكرة وحاضر الآن وهو الرؤية وحاضر المستقبل وهو الانتظار

واللافت ما أورده الأستاذ الباحث محمد أعراب في مبحثه "مفهوم الزمن في الفكر الفلسفي الحديث"، فبعد أن يعيد مقولة القديس أوغسطين التي ذكرناها، يعمل على البرهنة على أن الماضي والمستقبل غير موجودين حقيقة، و(الآن) هو حركة انتقال من لا وجود إلى لا وجود، ويعتمد على رأي الفيلسوف الفرنسي (هنري برجسون) القائل بأن "الزمن شيء مطلق لا يقبل الامتداد والتقسيم والاختزال أو التحديد"، وفرّق ما بين الزمن وما بين (المدة) التي تعبر عن الأحداث والتغيرات المحكومة ببداية ونهاية، وما يهمنا من رأي برجسون هو نفيه لوجود الماضي والمستقبل، وأن الزمن ما هو إلا الحاضر، وللحاضر أنواع: حاضر الماضي وهو الذاكرة، وحاضر الآن وهو الرؤية، وحاضر المستقبل وهو الانتظار، وبذلك يصبح الوعي المرتبط بالانتظار هو المكان الفعلي للزمن الحقيقي!

وإذا ما ربطنا ذلك بمقولة الكاتب والموسيقي والفيلسوف الفرنسي (جان كيليفتش): "المستقبل هو المكان الطبيعي للأمل، وهو القطب الذي يجذب الشجاعة" نخلص إلى متتالية (الوعي، الانتظار، الزمن، الأمل، الشجاعة)، ألا يفسر ذلك تفاؤل الناس مع كل قلبة زمنية من الزمان الاجتماعي، مثل رأس السنة أو عيد ميلاد أحدهما أو أحد الأعياد الدينية؟ نعم، يفسر ذلك وبقوة، لأننا نحتاج إلى الأمل، إلى الشجاعة الكافية لمواجهة الزمن نحو نهايتنا المحتمة، ولعل محمود درويش خير من عبر عن ذلك في قصيدة (حالة حصار):

"هنا

عند منحدَرات التلال

أمام الغروب وفوَّهة الوقت

قرْب بساتين مقطوعة الظل

نفعل ما يفعل السجناء

وما يفعل العاطلون عن العملْ:

نربِّي الأملْ".

لعله إدراك فعلي لجدلية الزمن والانتظار وحتى الوعي، لكن انزياحاً غير واعٍ في العبارة عند عدد من كتاب وصحفيي وشعراء أيامنا يقودها إلى "العاطلون عن الأمل"، فهي تبدو جاذبة من حيث الموسيقى والتضاد، لكنها تحيد كثيراً عن العمق القصدي والمعرفي، إذ إن قائل هذه العبارة عاجز عن المستقبل، و(الآن) عنده في حالة عطالة، فهو بحكم الميت أو في طريقه نحو الانتحار، غير أننا إذا ما أردنا تبريرها فيمكننا الاتكاء على "استحالة زماننا" على رأي الجاحظ، فحين يصل الحد بالشعوب العربية إلى عدم القدرة على التأثير في حاضرها الآني أو المُنتظَر، يصبح كل شيء ضبابياً، فتفقد حتى التفاؤل بما هو آت، وتنقاد في حركية الزمن المجهولة نحو نهايتها المجهولة!

في رفقتنا الجبرية مع الزمن يترك آثاره علينا نفسياً وجسدياً، والأجدى بنا ألا نستسلم لها، لأن الزمن ليس واحداً ولا مساره كذلك، وما الشيخوخة على سبيل المثال إلا أثراً، لكن حاضر الانتظار مفتوح لا يمكن الجزم بحدوده، فحين يشعر الإنسان الكهل أنه ما زال شاباً فليصدق ذلك، ومن الطبيعي أن نحلم ونحن ننتظر بداية عام جديد بأشياء كثيرة قد تتغير للأفضل في حياتنا، والكثيرون منا يتابعون أقوال علماء الفلك ودجاليه، لكن الزمن وعاء كما قيل، يملأ بما وضع فيه، وابن خلدون في دفاعه عن العقل أنكر صناعة النجوم لهشاشة في بنائها المنطقي، ويبقى الذين يربّون الأمل أحب من العاطلين عنه.