تهافت الحياد الصحفي

2022.04.07 | 06:05 دمشق

205701.jpg
+A
حجم الخط
-A

في الأيام الأولى من الهجوم الروسي على أوكرانيا، تعرض الصحفيون الغربيون الذي يغطون تلك الحرب لانتقادات عديدة، بسبب التعليقات العنصرية التي أطلقها الكثير من المراسلين أو المندوبين الإخباريين حول الفوارق بين اللاجئين الفارين من أوكرانيا، وأولئك القادمين من الشرق الأوسط. ولكن في حمى التدفق الإعلامي المصاحب للحرب، غاب النقاش أو الجدل حيال عنصر اللغة المستعملة في التغطية الإخبارية للحرب. وهي لغة تختلف كليا عن تلك اللغة التي كنا نسمعها في أثناء تغطية المحطات الفضائية الغربية للحروب التي كانت منطقتنا -مع كل أسف- مسرحها الوحيد منذ ربع قرن تقريبا.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، رفعت الصحف والمؤسسات الإعلامية الغربية من شأن الحياد، بحيث أصبح واحدا من معايير الكفاءة الصحفية أو الإعلامية، لأنه يضع كل الأطراف على مسافة واحدة من المتلقي الذي له وحده الحق بأن وجهة النظر التي يقتنع بها. وتحت يافطة الحيادية هذه، كان يطلب من المراسلين والمحررين أن يضعوا آراءهم السياسية جانبا، وأن يعبروا بألفاظ محايدة عما يجري أمامهم. وكثيرا ما اتهم الصحفيون من دول العالم الثالث، أو دول الجنوب كما في الاصطلاح المعتمد في الأدبيات الاجتماعية، بأنهم ينزعون نحو استعمال اللغة العاطفية في أثناء تغطيتهم للأخبار، أو في أثناء تقاريرهم الإخبارية.

معيار الحياد نفسه هو معيار مضلل يقصد به إخفاء الخلل في العلاقات الدولية والتغطية الإعلامية المصاحبة لها

لا يمكن النظر إلى الحياد بمعزل عن الخلل في التوازن، سواء في التدفق الإعلامي أو في علاقات القوة المصاحبة للهيمنة الغربية على العالم، وما تطرحه من مبادئ تتناسب مع استمرار هيمنتها على الساحة الإعلامية العالمية. ولهذا فإن معيار الحياد نفسه هو معيار مضلل يقصد به إخفاء الخلل في العلاقات الدولية والتغطية الإعلامية المصاحبة لها.

في حالتنا السورية، كانت وسائل الإعلام الغربية تنقل أحداث الثورة السورية على أنها "حرب أهلية"، ولم تكتف بذلك بل كانت تعبر بطريقة أو بأخرى عن وجهة نظر النظام حيال "الحرب الأهلية" الجارية في سوريا، فمراسلة BBC، ليز دوسيت، كانت تتحدث عن "المعارك" بين المتمردين والقوات الحكومية، وتنقل قصصا إخبارية تظهر معاناة موالي النظام في قضايا حياتية كالغلاء المعيشي وصعوبة الانتقال والتضخم، وهي معاناة لا يمكن مقارنتها أبدا بالمعاناة الرهيبة التي يعانيها الناس في جانب الثورة من قتل وتهجير وتدمير حواضر عمرانية. وكان التأطير الإخباري يقصد إخفاء الجهة المسؤولة عن القتل والتدمير، عبر تبني عبارات غائمة، مثل: "مقتل خمسة أطفال" في قصف على بلدة تلبيسة، دون أن تذكر الجهة التي كانت تقصف، وكذلك في تجاهل المأساة الجارية كليا، حين تحجم تلك القنوات عن نقل أخبار القتل اليومية التي ينفذها النظام السوري. هكذا كان الحياد الأعمى يقلب الحقائق، أو يتجاهلها، أو يساوي بين الجلاد والضحية في أحسن الأحوال.

غير أن هذا الحياد سرعان ما توارى مع بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا، فمع الساعات الأولى للهجوم بدأت اللغة العاطفية تطغى على التغطية الإخبارية -وأتحدث هنا عن القنوات الناطقة بالإنجليزية- بحيث تحولت تقارير المراسلين إلى لغة مشحونة بالمشاعر والعواطف عبر تركيزها على معاناة المواطنين الأوكران من الهجوم الروسي، وترتفع تلك اللغة إلى ما يشبه الخطب الحماسية في أثناء تسليط الضوء على الروح الوطنية الأوكرانية في مواجهة الغزو الروسي، سواء من خلال عودة الآلاف من الأوكرانيين في الخارج للدفاع عن بلدهم، أو من خلال امتداح الحماسة الوطنية التي دفعت الكثير من المدنيين الأوكران لحمل السلاح.

على خلاف تغطية بعض وسائل الإعلام العربية التي تبدو أكثر قربا من وجهة النظر الروسية، امتلأت شاشات BBC  و CNN  و Fox News بعناوين مثل: "الغزو الروسي" أو "الاجتياح الروسي"، وأعطت القنوات الإخبارية حيزا واسعا من نشراتها الإخبارية للرئيس الأوكراني ووزير خارجيته ونائبة الوزير للحديث عن العدوان الروسي ومخاطره على أوروبا والعالم الغربي، ثم بدأت المحطات بتبني اصطلاحات مثل: "المقاومة"، ونقلت أعداد القتلى بحسب ما كانت تورده وزارة الدفاع الأوكرانية، في حين تجاهلت كل ما يصدر عن الجانب الروسي، بما في ذلك قضايا لا يمكن دحضها كالتوجه اليميني أو النازي لكتيبة آزوف.

وفي مقابل هذا الاندفاع نحو تبني وجهة النظر الأوكرانية –وهو تبن محق- غابت وجهة النظر الروسية تماما، فلم تفسح لها تلك القنوات أي حيز يذكر في التقارير الإخبارية، ذلك أن أغلب المراسلين كانوا يعدون تقاريرهم من الجانب الأوكراني، كما في حالة مراسلة BBC الشهيرة، ليز دوسيت، التي كانت تنقل مجريات الحرب من قلب العاصمة الأوكرانية التي بدأت القنوات الناطقة بالإنجليزية بتبني طريقة التلفظ الأوكرانية لها بدلا من النطق الروسي الشائع والمعروف.

لا يعني ما سبق الوقوف ضد استعمال الاصطلاح المعبر عما يجري على أرض الواقع، فالحقيقة أن معايير الحياد أو عدم الانحياز أو التوازن في نقل الخبر، والتي تعد من أساسيات العمل الإعلامي لا يجب أن تغطي على الموضوعية، ولا على الحقائق الماثلة أمام عين المراسل الصحفي. ولكن الاستغراب يأتي من هذا التحول عن "الحياد" الذي كان الإعلام الغربي يتبناه في تغطية الحروب التي تجري في دول الجنوب، وفي مقدمتها عالمنا العربي. فعلى مدار أكثر من عشرين عاما، لم نسمع في القنوات الغربية اصطلاح القوات المحتلة، أو قوات الاحتلال، أو الاحتلال، للتعبير عن الوجود الأميركي على أرض أفغانستان والعراق، ناهيك طبعا عن التغطية المنحازة إلى جانب إسرائيل في وسائل الإعلام الغربية ووكالات الأنباء العالمية، ففي الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في السنوات الماضية، على سبيل المثال، كان الاصطلاح المعتمد هو العملية العسكرية الإسرائيلية، وهو مصطلح قريب من المصطلح الروسي للهجوم على أوكرانيا.

بعد الحرب الروسية على أوكرانيا لم يعد بإمكان الصحفيين الغربيين أن يزعموا بأنهم أكثر مهنية من زملائهم في العالم الثالث

جاء انقلاب الصحافة الغربية على القواعد التي ألزمت بها نفسها لعقود في أثناء تغطيتها للحروب والصراعات في دول الجنوب، لأن الحرب الروسية على أوكرانيا شكلت تهديدا مباشرا لعلاقات القوة التي كانت تلك الصحافة تدافع عنها تحت عنوان "عدم الانحياز لأي طرف من أطراف الصراع". وهو تحول يكشف عن نفاق "الحياد" الذي كانت الصحافة الغربية تتشدق به عبر عقود طويلة، متهمة صحفيي دول الجنوب اتهامات تتراوح بين الانجرار وراء العاطفة وانعدام الكفاءة. فبعد الحرب الروسية على أوكرانيا لم يعد بإمكان الصحفيين الغربيين أن يزعموا بأنهم أكثر مهنية من زملائهم في العالم الثالث، ولا أن يستغربوا أن يستعمل صحفيو مجتمعات تتعرض لعمليات إبادة وتهجير طائفي اصطلاحات تعبر عن الوقائع الموضوعية أمام أعينهم.

مؤلمة تلك التقارير التي كانت تبثها كبيرة المراسلين الدوليين في BBC، ليز دوسيت، من المناطق والأحياء المدمرة التي كان النظام السوري يعيد احتلالها بمساعدة الطيران الروسي والميليشيات الإيرانية. المؤلم أكثر من وجودها في طرف ميليشيات النظام هو نبرة "المحاباة" التي كانت تتسرب في تقاريرها وقصصها الإخبارية، تلك المحاباة التي تتعامى عن الجرائم التي يرتكبها النظام بحق شعب يتوق للحرية.