تناقض ذاتي؟

2019.11.25 | 19:21 دمشق

2019-11-23t003052z_632993979_rc2ogd9a7z5c_rtrmadp_3_chile-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

يُفترض بمن ينتمي إلى الفكر التغييري الثائر على الاستبداد والفساد، أن يشعر بالتضامن مع جميع الحركات التي تثور على أنظمة مستبدة أو فاسدة، أو حتى تلك التي تحتج على وحشية رأس المال المتمددة وفقدان العدالة الاجتماعية. وبالتالي، فمن البديهي أن يشعر هذا النوع من البشر بالتضامن مع جميع الحركات الاحتجاجية دون تمييز بين عرق ودين ونطاق جغرافي. فالعروبة بمفهومها التقاسمي والتشاركي لهموم ومواجع ومشاعر جميع الساكنين في المنطقة العربية دون تحديدٍ ثقافوي، أسقطت الحسم بانتهاء الشعور المشترك وتجاوز مرحلة القومية العربية الخطابية أو الأيديولوجية لتستنبط شعوراً من الأدنى يتميز بأنه تشاركي وتفاعلي. وما يحصل في عدد من العواصم العربية كامتداد لموجات الاحتجاج والثورة التي بدأت في تونس سنة 2010، دليل راسخٌ في هذا التوجه. والتضامن الذي تعبر عنه مظاهرات بغداد مع نظيرتها في بيروت كما الشتائم المشتركة لكل النقاط الاحتجاجية في الدول العربية ضد الطاغية المصري الجنرال السيسي، وسواها من الدلائل والمظاهر التي تُشير إلى نقاط تقاسم مشتركة بعيداً عن الخصوصيات غير الغائبة عن الذهن الواعي.

وبالتالي، فالمتضامن مع ما سبق لا يمكن إلا أن يجد نفسه متضامناً، وبشدة، مع شعب تشيلي الذي يحتج على الليبرالية المتطرفة المطبقة في اقتصاديات البلاد والتي عززت الفقر وألغت وجود الطبقة الوسطى وأثرت حيتان الفساد والحزب الحاكم. كما لا يتردد المنتمون إلى هذه الفئة المؤمنة بحتمية التحرر ليس فقط من الاستعمار ومن الاستبداد، بل ومن سيطرة التحالفات الاقتصادية / القمعية كما يحصل في هونغ كونغ. ويمتد الشعور ليصل إلى بؤر احتجاج في أقصى البعد الجغرافي والأبعد في الانتماء الديني أو العرقي.

هذا المتضامن، الذي يمكن أن يكون أنا مثلاً، لن يتردد لحظة عن دعم مجمل الحركات الاحتجاجية في مختلف أصقاع العالم الحر ومنقوص الحرية ومحرومها. وفي فرنسا، يحتفل أصحاب السترات الصفر بعيد ميلاد تجمعاتهم الأول. وهم قد خرجوا في مثل هذه الأيام من العام الماضي احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود. وامتدت حركتهم لتشمل مطالب اجتماعية واقتصادية مشروعة. ورفض المنغمسون في هذه التجمعات فكرة اختيار او انتخاب أو تعيين قيادة تتحدث وتتفاوض باسمهم. وصار الجميع ممن يشاركون في التجمعات ناطقين رسميين ومعبرين عن مطالب تتغيّر حسب نوعية التجمع والقائمين عليه. مظاهرات السترات الصفر في فرنسا، والتي تحمل هماً اقتصادياً بالدرجة الأولى، سرعان ما تم استنباط هموم سياسية متعددة من خلالها تتعلّق في جزء كبير منها بالانتخابات والتمثيل النيابي وشفافية الحياة السياسية.  

ومن خلال الإيمان المطلق بأن دولة القانون موجودة في فرنسا، كما تدل عليه القوانين والممارسات، فالحق بالتظاهر هو حق نص عليه الدستور بشكل واضح. وكان أمر التظاهر المطالبي يرتبط تقليدياً وأساساً بالنقابات العمالية والقطاعية، لكنه في حالة السترات الصفر، فقد خرج تماماً عن إطار وسيطرة النقابات والتي بدورها لم تشارك في حراكه واعتبرت نفسها شبه غير معنية بمطالبه. وعلى الرغم من أن الكثير من المتظاهرين ينتمون إلى أحزاب متنوعة ذات اليمين وذات الشمال، كما أن جُلّ العاملين منهم ينتمون نظريا إلى الجسم النقابي، إلا أنهم ابتعدوا في حركتهم عن قبول أية وصاية نقابية أو حزبية، بما أنهم أساساً اعتبروا أنفسهم خارجين عن المنظمة التقليدية بكل حمولتها وفي كل ترجماتها. فالتضامن مع السترات الصفر يدخل إذا في نطاق الإيمان بمجمل الاحتجاجات كونياً. فلماذا أشعر بالتناقض الذاتي إزاء تطور مسار هذه الاحتجاجات فرنسياً على الأقل؟

إن الغياب الإرادي لقيادات واضحة يمكن أن يترجم من خلال الخطاب السياسي والإعلامي أهم النقاط التي يتوافق عليها جميع المشاركين، يجعل من العبث سيد الموقف. كما أن انخراط مجموعات من الفوضويين اليساريين الفرنسيين ولكن أيضا القادمين من دول أوروبية عديدة في الحراك وهم يسعون بكل ما أتيح لهم من وسائل، للقيام بعمليات تخريبية تمسّ رموز الليبرالية المنفلشة، كما يحلو لهم أن يدافعوا عندما يتم انتقاد العنف في احتجاجاتهم. وكما أن السترات الصفر يتهاونون بشكل كبير مع تواجد هؤلاء المتطرفين في صفوفهم ولا يحاولون البتة تهدئة النفوس والدعوة إلى السلمية التي من المفترض أن تسيطر على حراكهم. الفوضويون إذا، يقومون بتخريب مئات المحلات التجارية والمصارف والمقاهي، خصوصاً في الأحياء السياحية. وفي ظل غياب أي تنظيم قيادي أو مؤطّر لهذا الحراك. ويجري ذلك على عكس عادة نقابية قديمة بإحاطة المظاهرات الاحتجاجية بعناصر تنظيمية تتفاوض مع دائرة الشرطة في المدينة لترتيب المسار وتحديد أوقات التجمعات بعيداً عن أي احتكاك بأجهزة الأمن التي من المفترض بها أن تحمي المشاركين في التظاهرة وليس العكس.

الحكومة تجاوبت جزئياً وبشكل غير كافي مع المطالب التي خرج من أجلها المحتجون. وبالمقابل، فقد انخفضت أعدادهم بشكلٍ كبير مع التعب الذي أصابهم كما بسبب عدم تجانسهم في ترتيب الأولويات. والعنف الذي يلطّخ المظاهرات والمحصور بفئة الفوضويين، يُفقدهم كثيراً من الإعجاب أو الدعم أو التضامن. كما أن وجود مجموعات عنصرية تختبئ في أثواب المطالب الاقتصادية وهي تحمل أجندات مختلفة تماماً، يُبعد بعض المؤمنين بالعدالة الاجتماعية وبمشروعية الحراك ذاته.

لا تناقض ذاتياً إذا إن جمّدت تضامني، في ظل عزوف السترات الصفر عن إبعاد العناصر المخربة، ورفضها الدائم لإدانة انحرافات هذه العناصر.