تناقض العلاّمة مرتضى مطهري في تقرير (ختم النبوة)

2020.08.14 | 00:07 دمشق

1272872165.jpg
+A
حجم الخط
-A

الجزء الثالث

 

{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}.

بهذه الآية القرآنية يفتتح مرتضى مطهري حديثه عن (ختم النبوة) ليؤكد إيمانه المطلق بأنّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي الخاتم ولا نبي بعده، ويفسّر مطهري مسألة ختم النبوة من جهتين:

الجهة الأولى: جهة المرسَل إليه الذي تجاوز طور الطفولة وبلغ سن الرشد، و"عندما يبلغ البشر مرحلة من التكامل تمكنهم من الحفاظ على ميراثهم الديني سالماً فعند ذلك ينتفي السبب الرئيس لتجديد الرسالة وظهور نبي جديد. {إنا نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون} تشير إلى انتفاء أهم سبب لتجديد النبوة والرسالة}" (ختم النبوة، ص: ١١). وهذا البلوغ والرشد يتيح لهم فوق المحافظة على هذا الميراث أن يبلغوه وينشروه ويفسّروه، فــ "من أركان الخاتمية البلوغ الاجتماعي للبشر بدرجة تمكنهم من الحفاظ على ميراثهم العلمي والديني ويبادرون بأنفسهم إلى نشره وتبليغه وتعليمه وتفسيره" (ختم النبوة، ص: ١٢).

الجهة الثانية: جهة المرسَل نفسه، فالنبي الأكرم بلغ الدرجة الأكمل من المكاشفة الإلهية بحيث لم يترك أي مجال لإنسان بعده أن يحظى بما حظي به، ولذلك فإن إرسال مرسَل جديد لن يحمل أية إضافة، و"يكون مثل ذلك مثل من يريد أن يعرف ماذا يجري على سطح القمر فيرسل صاروخاً، ويقوم هذا بالتصوير ونقل الأخبار ويزوّد من أرسله بمقدار من المعلومات، ثم يرسل صاروخاً آخر فيأتي بمعلومات أكثر، وهكذا يواصل إرساله للصواريخ حتى يصل حداً لم تبقَ فيه أية معلومات تكشفها تلك الصواريخ، ويقف عند نقطة فوق قابلياته وإمكانياته، ولو بقي هناك شيء فهو فوق طاقته [...] وهكذا فالخاتمية تعني الختام والفصل الكامل من وجهة نظر المعارف الإلهية، وعندما يتخذ الفصل الكامل شكله الحقيقي فلا معنى لوجود فصل آخر مغاير له، ولو فرضنا نبي [هكذا] آخر في درجة النبي الخاتم فسيكرر نفس ما قاله ولا يأتي بجديد" (كتاب الإسلام ومتطلبات العصر، ص: ٢٢١).

سنضرب صفحاً عن دقة التشبيهات التي يستخدمها مطهري في هذا المجال، وسنسلّط الضوء على التناقض الحقيقي الذي يقع في حبائله وهو يقرر ويشرح (ختم النبوة) ثم يقرر ويشرح (الإمامة).

يؤمن علماء الشيعة ومطهري واحد منهم بأن أصول الدين خمسة وهي: (التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد)، وأنّ (الإمامة) استمرار للنبوة، وأنّ الدلائل العقلية التي تدل على ضرورة بعث الأنبياء تدل على ضرورة وجود الأئمة بعد النبي، وبأن دلائل عصمة النبي تنسحب على الأئمة فيؤمنون بعصمتهم أيضاً.

يقول مطهري عن الإمامة بأنها "ظاهرة ومفهوم يناظر النبوة في أعلى درجاتها" (انظر: مرتضى مطهري، كتاب الإمامة، ص: ١٨٧)، ويقول: (الإمام ــ في حقيقته ــ هو تعبير عن مرجع متخصص في أمور الدين، وهو خبير حقيقي به بحيث لا يداخل معرفته الخطأ ولا يلابسها الاشتباه" (كتاب الإمامة، ص: ٩٩)، ويقول: "إذا قلنا في تعريف الإمامة إنها متمّم للنبوة في مجال الدين فذلك يعني أنها واجبة لأداء وظيفة النبي في بيانه لأحكام الدين. عندئذ ما كان دليلاً لوجوب عصمة النبي من الخطأ والذنب يعود ليكون بذاته دليلاً لوجوب عصمة الإمام" (كتاب الإمامة، ص: ١٠٢).

ويؤمن مطهري وسائر الشيعة أنَّ الإمامة كالنبوة لطف من الله تعالى، فلا بد أن يكون في كل عصر إمامٌ هادٍ يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وأنّ للإمام ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شؤونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم، وأنّ الأئمة بعد النبي محمد اثنا عشر إماماً، أولهم الإمام علي بن أبي طالب، وآخرهم الإمام محمد بن الحسن العسكري المولود سنة ٢٥٥ هـ/٨٦٩م، وهو حي يرزق حتى الآن، ولكنه غائب عن الأنظار، وينتظر اللحظة المناسبة حتى يظهر ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.

وهؤلاء الأئمة منصوصٌ عليهم نصاً إلهياً لا خيار للبشر في تعيينهم ولا اختيارهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بمن ينصبه إماماً وحجةً.

لا يعنينا هنا أن نبيّن أن عقيدة (الإمامة) الشيعية لا تستقيم مع عقيدة ختم النبوة، فقد تناول هذا الموضوع من قبل حجة الله نيكوئي وعبد الكريم سروش، ولكن يعنينا أن ننظر في معالجة مرتضى مطهري بالذات لهاتين القضيتين، وكيف أنه وهو الذي قضى حياته في دراسة المنطق وتدريسه، لم يتنبه إلى تناقضه وتضاربه في تقريرهما والإيمان بهما!

إذا كانت (الإمامة) تابعة (للنبوة) وكانت تناظرها في أعلى درجاتها، كما يقول مطهري، فإن هذا يقتضي أن ختم النبوة يعني ختم الإمامة. فكما أن البشرية وصلت إلى مرحلة البلوغ والرشد واقتضى ذلك ختم النبوة، فإن هذا الرشد يقتضي في الوقت ذاته ختم الإمامة.

وربما يناقش بعضهم بأنّ الشيعة لا يعتقدون أن أئمة أهل البيت عليهم السلام يمتلكون صلاحية التشريع، بل هو منحصر بشخص النبي صلى الله عليه وآله، وما هم إلا نقلة لعلمه، ومبينين لشرعه، فأحاديثهم هي حديث النبي نفسه. ولكن هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق من جهتين:

الجهة الأولى: أنّ هذا الجواب ينقل الحديث من (ختم النبوة) إلى (ختم الرسالة)، وهو خلاف الموضوع الرئيس، فختم النبوة لا تعني ختم نبوة الرسالة فحسب، ولكن ختم نبوة التبليغ أيضاً، لأن الأنبياء، كما يشرح لنا مطهري، نوعان: أنبياء رسالة، كموسى وعيسى ومحمد، وأنبياء تبليغ وترويج لرسالة سابقة عليهم، كمعظم أنبياء بني إسرائيل، وعليه فإن قول القائل: "أنّ الشيعة لا يعتقدون أن أئمة أهل البيت عليهم السلام يمتلكون صلاحية التشريع"، لا ينفي تعارض (الإمامة) مع (ختم النبوة)، لأنّ (الإمامة) في جوهرها نبوة تبليغ في حدّها الأدنى.

يؤمن علماء الشيعة ومطهري واحد منهم بأن أصول الدين خمسة وهي: (التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد)

الجهة الثانية: ليس صحيحاً أن الإمام لا يمتلك صلاحية التشريع، فللإمام ولاية تشريعية بل وولاية تكوينية أيضاً، ويؤمن الشيعة أنّ الإمام يُوحى إليه كما يوحى إلى النبي، إذ الإمام، كما يقول الشيخ العلامة محمد رضا المظفّر: "يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجد شيء لا بد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه، فإن توجه إلى شيء وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي، لا يخطأ فيه ولا يشتبه" (الشيخ محمد رضا المظفّر، كتاب عقائد الإمامية، ص: ٦٧)، فكل إمام من الأئمة هو نبي على وجه التحقيق، بل أفضل من جميع الأنبياء السابقين، وهذا ما يقرره مطهري حين ينص على أنّ نوحاً وإبراهيم وموسى أقل درجة من علي وفاطمة وسائر الأئمة. (انظر: الإسلام ومتطلبات العصر، ص: ٢٢١).

إنّ أحد المسوّغات الأساسية لختم النبوة عند مطهري أن البشرية بلغت مرحلةً من النضج تؤهلها للمحافظة على الميراث الديني من الضياع والتحريف، ومرحلةً من الرشد تجعلها قمينة بتبليغه ونشره وتفسيره. وفي حديثه عن ختم النبوة تصبح الصورة وردية بل لازوردية و"يحلُّ العلماء محل الأنبياء"، وتشرح لنا الآيات القرآنية أنّ "واجب التعليم والتبليغ وحفظ الآيات السماوية قد انتقل في عصر القرآن إلى العلماء، فهم من هذه الناحية خلفاء الأنبياء، فهذه الآيات تمثّل إعلاناً ببلوغ البشرية واستقلالها من هذه الناحية، والقرآن يدعو البشر في جميع آياته إلى التعقل والاستدلال ومشاهدة الطبيعة بشكل عيني وتجريبي ومطالعة التاريخ والتفقّه والفهم العميق، وهذه جميعاً دلائل ختم النبوة، وحلول العقل والعلم محل الوحي التبليغي". (ختم النبوة، ص: ٤١)

وكما نرى فإنّ هذه الصورة تقدّم المسوّغ الكافي والوافي لختم الإمامة أيضاً، لكنّ مطهري ينسف كل ذلك ويناقض نفسه مناقضة عجيبة غريبة من دون أن يختلج له عرق، فينقض كلّ الكلام السابق، ويتحدث عن أن الديانة الخاتمة يقع فيها التحريف بشكل لا مثيل له، وبطريقة كارثية، إلى درجة أنّ هذا الدين يفقد كل ملمح من ملامحه! فيقول: "ونحن الإمامية نعتقد أنّ الإمام المهدي عليه السلام حينما يظهر يأتي بدين جديد، وذلك لكثرة ما طال الدين من تزييف وتحريف وتلاعب، فيأتي سلام الله عليه بدين جده المصطفى بحيث يستغربه الناس لأنّه غير الدين الذي ألفوه" (انظر: الإسلام ومتطلبات العصر، ص: ٢٣١) (١).

وهكذا يقدّم لنا مطهري صورتين: الأولى تقتضي ختم النبوة، وبالتالي ختم الإمامة.

والثانية: تقتضي بقاء الإمامة، وبالتالي عدم ختم النبوة.

وخلاصة ما يطرحه:

الإمامة كالنبوة، وكل ما يصلح دليلاً للنبوة يصلح دليلاً للإمامة، وتُختم النبوة لوجود مسوغات ختمها، ولكنّ الإمامة لا تختم ولو وُجدت هذه المسوغات، والإنسانية بالغة رشيدة لذلك خُتمت النبوة، وغير ناضجة وسفيهة في اللحظة ذاتها لذلك بقيت الإمامة! وعلماء الأمة الإسلامية أمناء كفاة حُماة لذلك خُتمت النبوة، وهم أنفسهم جهلاء خونة ضائعون لذلك وجبت الإمامة.

هل من حل لهذا التناقض؟

ربما كان كتاب الدكتور محسن كديور (القراءة المنسية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار) هو محاولة للخروج من هذه المعضلة حيث دعا إلى إعادة النظر للأئمة بوصفهم علماء أبرار من جنس البشر يتمتعون بخصال العلم والتقوى مثلهم مثل علماء الإسلام البررة الأتقياء من دون ذلك البعد الغيبي النبوي الذي يعطيهم حاكمية تعادل حاكمية النبي نفسه، وتعطي النائب عنهم المتكلم باسمهم حصانةً توازي حصانة النبي ذاته.