تمثلات القبلية في المهجر .. من أطر التحشيد إلى آفاق التواصل

2023.05.23 | 05:44 دمشق

آخر تحديث: 23.05.2023 | 06:15 دمشق

شماغ
+A
حجم الخط
-A

تحت عنوان "تبحث الصحف الألمانية عن كائن غريب حط في ألمانيا" نشر أحد ناشطي فيس بوك صورة من الخلف لرجل يبدو كبيرا في السن وفقا لهيئته يلبس الزي العربي التقليدي "الثوب والحطة والعقال والفروة التي تلبس لاتقاء البرد" في صالة بيع صغيرة بمدينة ألمانية، فتناهب المعلقون الصورة بالتهكم وادعاء التخلف وضرورة احترام أعراف البلاد، رغم أن أمهات قسم من المعلقين أنفسهم يلبسن ثيابا شرقية سوداء بحكم العادة من يزيديين ورومان وصرب، أو بحكم تدين جيل من الآباء الملتزمين دينيا على اختلاف قومياتهم وأعراقهم، بما في ذلك الأمهات من الجالية اللبنانية الأقدم واللائي قضين أعمارهن في ألمانيا ولم يُثِرن أي امتعاض لدى أبناء تلك البلاد التي تعلّم أهلها احترام ثقافات وعادات الشعوب الخاصة ما لم تمس حياتهم بأذى، كما لم يلحظ هؤلاء أبناءَ الجنسيات الأخرى المهاجرة من أفغان، وهنودا يلبسون العمامة مع اللباس الرسمي. وقد أدى ذلك لردة فعل من قبل أبناء القبائل من المهاجرين سوريين وعراقيين خصوصا، تعتز بالزي العربي وما يمثله، فجاء الرد باتهامات أبناء القبائل بالماضوية والفوات، وما زال التراشق مشتعلا، ولعل الأمر مثل بعضا من اهتمامات جيل تم اكتساحه عبر وسائل التواصل التي تكرس التفاهة في شتى مجالات الحياة، غير أن أحدا لم ينتبه لما يمثله الوطن من فردوس مفقود في مخيلة المهاجرين أيا كان منشؤهم وحق أي منهم بشتى تعبيراته وأشكال الحنين، وتشكلات الهوية المأزومة بين سندان الماضي القريب ومطرقة الواقع الجديد، وانعكاسات ذلك في إعادة بث الروح في هويات جزئية، محلية، مناطقية، أو استيلادها في الشتات.

المهاجرون ليسوا طبقة، ليسوا قبيلة أو عرقية ولا أقلية، ولا تنفع أي من الأطر التصنيفية السابقة لقراءة ذلك، ولعل طرح المجتمعات الموازية التي يمكن أن تحضر في غمرة هذا العصف الذهني، فهي قد تكون محدودة بمحددات مختلفة وقد لا تتطور وقد تتفتق عن جديد، كما أن مقولة الشتات في تعبيرها اللغوي المباشر هي الأكثر تعبيرا عن واقع اللجوء مما يحدو بنا لدراسة أولى تشكلات الجماعات السورية في المهجر وطرق تشابكها وعوامل هذا التشابك وآفاقه وإمكاناته.

المهاجرون ليسوا طبقة، ليسوا قبيلة أو عرقية ولا أقلية، ولا تنفع أي من الأطر التصنيفية السابقة لقراءة ذلك، ولعل طرح المجتمعات الموازية التي يمكن أن تحضر في غمرة هذا العصف الذهني...

ولأن المقال السابق كان عن البرجوازية وشتاتها، لابد والمرور على البيئات الجزئية، والبنى الاجتماعية الصغيرة التي انحسرت على نفسها كذلك، إذ إن تلمس آفاق تشكل جماعة سورية في المهجر، لابد أن يمر بمحاولة التفتيش عن الجماعات المهاجرة وهوياتها المحلية باعتبار أن جزءا كبيرا هاجر بوطنه مع حزمة علاقاته وبقجة حميمياته، وربما أحقاده أيضا وكل عقده وتمثلاته السابقة، إذ هاجر من يعتقد بمنبته الرأسمالي برأسماله المتخيل وإرثه، كما هاجر ابن المنبت الإقطاعي وابن القبيلة أيضا، وقد يقول قائل إن أبناء الأحياء والحارات والقرى يحملون سمات مشتركة عامة سورية، أو تلك التي تقع ضمن ثنائية ريف مدينة. لكنا لا نرى  شراكة بين حي وآخر؛ فكل منا نحن سكان المدن يتمثل حيه ولا يجد خصوصيته موجودة في حي آخر، لأنه غالبا ما حمل الحي ذكريات الطفولة الخاصة الفردية لا العامة، مع تماثل أغلب الأحياء في المدن الكبيرة، إضافة لتضمن كل منها خصائصه المشتقة من ذكريات الفرد فيه، بالتالي لا يعتقد أن شعورا ما كالحنين يمكن أن يشكل رابطا ينشأ بين فردين يسكن كل منهما في حي مختلف، أو حي مشابه في مدينة أخرى، بالرغم من وجود هوية مدينية تجمع بين ابني المدينة نفسها كحمص أو دمشق أو حماة، لكنها لا تشكل خيطا أو دافعا للتواصل، حيث العلاقة في الوطن الأم غالبا ما كانت محصورة بنمط علاقات أبناء المدينة؛ تلك التي تختلف جذريا عن أبناء الريف وتشابكاته الحميمة.

وكما أن البرجوازية حاولت استيلاد نفسها بأدوات قديمة لا توائم الواقع الجديد من دون قدرة على استيلاد إرث أو سردية، فقد سقط الإقطاع وتجردت المشيخات من كل مصالح التكريس وتجاذبات السياسة وبقيت شرفية صورية ذات تأثير مدني اعتباري، كما لم توفق القبيلة في طرح نفسها كفئة اجتماعية محددة، وبقيت عاجزة أن تكون معبرا حقيقيا لأبنائها، ولا وعاء لنشاطهم الحياتي، وهي بالقطع لا يمكن أن تكون حاملا لأي مشروع وطني في بلادها، وغالبا ما كانت موضوعا للسياسة أكثر من كونها كيانا سياسيا. ومحاولة إعادة تشكيلها أو توليدها في المهجر لن تقدم مشروعا سياسيا ولا رؤية تتفق والواقع الجديد، لكن فيها ما يستدعي الانتباه وهو إمكانات التواصل ووجود شبكة الثقة في مستويات التعامل الاجتماعي فيما بينها؛ التي قد تفيد في تحقيق حالة تجمع ما لأبنائها ومحيطها بعيدا عن نجاعته سياسيا وبرامجيا، إذ من المنتظر في هذا الشتات أن ينتقل السوريون من الأفراد الكثيرين المتفرقين إلى جماعات متعددة يمكن أن تنجز اتفاقا على مشتركات عامة تكون نواة تشكل جالية، خصوصا ونحن بعيدون تماما عن إمكانات التجمع بناء على توجهات ثقافية أو سياسية، حيث تمتلك القبلية قدرة في التعاضد، وقدرة على الحفاظ على أعراف مشتركة، وقد تكون أقرب إلى تطوير نفسها أو الانغمار في محيطها باعتبارها أكثر تواصلا وتشابكا مع نفسها ومع المحيط الاجتماعي العربي المهاجر من غيرها من البنى التقليدية، ولغياب تصورها عن نفسها كنخبة أو ربما حاجة نخبها التقليدية المستولدة إلى وعاء أو رصيد اجتماعي تتشارك معه وهو ما يغيب عن فتات البرجوازية، وتفيد حصتها العريضة من القواعد الاجتماعية في إمكاناتها من التحول مع الحفاظ على جملة قيم قبلية قد تسقط منها عادات كالثأر وذهنية الغنيمة والنكاية والتنافس؛ خصوصا أن مستويات التواصل بين أبناء البيئات القبلية تشير إلى انتقالها من شكلها التحشيدي البيني إلى مستوى التشارك في جملة عادات وتقاليد ومظاهر تدل على تماهيها مع قيم عليا تبدو مثالية تشد الكثيرين من غير أبنائها – ومنهم أبناء أرياف شتى المحافظات- من قبيل الأصالة والعروبة والتاريخ في مجتمع الهجرة غائم الهوية، لكن ذلك لا يعني إغفال ضرورة دراسة مدى خروج اللاجئين من بيئاتهم العميقة أو القديمة إلى بيئات جديدة في المهجر، خصوصا بعد تهتك الحدود القديمة بين البنى الاجتماعية؛ التي كانت تنوس بين فئات أو أنساق اجتماعية أو طبقات - رغم نسف مفهوم الطبقة- ومدى إمكانية أن تذوب  وتتشكل أنساق أو تشكلات اجتماعية، تتجاوز التكتلات السابقة نحو تغيير مجتمعي في طبيعة العلاقات البينية والهويات الضيقة، وتشكيلها لهوية مشرقية أو سورية عموما في المهجر، مع إمكانية حصول ذلك في الوطن في حال غياب الاستبداد وانتشار مفاهيم جديدة للتحضر والتمدن، رغم خضوع الهوية عموما للتحول والاستيعاب واحتمالات الانكماش أيضا، لكنها تبقى هوية متحولة وربما هلامية أو فضفاضة، بل وربما أقل من أن تكون هوية بالمعنى الاجتماعي الذي يفترض تواصلا وتشابكا، لكنها تشكل في إحدى مستوياتها شكلا أو جذرا أو أرضية جامعة تضم اللاجئين من ذوي تجربة الغربة عن مجتمع جديد يفرض إيقاعه في شتى نواحي الحياة، وتشكل تعويضا عن فقد أو  انفصال عن أرض أولى نشأت عليها الهوية الأولى وهي الوطن؛ بكل تشابكات العلاقات ورمزية المجتمع والبعد العاطفي والمتخيل.