تماهي الاحتلال والاستبداد: بيان الضامن للنذل

2021.07.12 | 07:06 دمشق

post-2-08-07-2021.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تكن الرسالة الموجهة إلى بوتين، والتي أملتها مخابرات النظام الأسدي على لسان "خالد العبود" من فراغ؛ فليس "النظام" الذي صمد لنصف قرن مواجهاً أعتى العواصف إلا لاعباً ماهراً على كل الحبال، دون تحليل أو تحريم. وما الروس بالنسبة له إلا أداة نجاة ضمن العاصفة الأصعب في تاريخه؛ والتي إذا وصلت لذروتها، ستبتلعه نهائياً؛ وتكاد. ومن هنا أتت تلك الرسالة الرافضة، المحتجّة، الهجومية، المهدّدَة.

نظام الأسد هو الأعرف باحتقار الروس واستغلالهم له أكثر من أي جهة؛ وإن كان طفل يسَخِر من حديث الروس عن "السيادة السورية" في بيانهم /الأستاني/ الأخير؛ فما بالك بمنظومة تمتهن الدجل والمراوغة والمزاودة، ليغيب عنها هذا. تعرف المنظومة أنه لم تحتقر أو تُذِلَّ أيُ جهة رئيسَها، بقدر ما أذلته روسيا باستدعائه بطائرة شحن إلى روسيا، وبإبعاده عن استعراض عسكري لبوتين على الأرض السورية، وبأخذ توقيعه عنوة على عقود مديدة مهينة ترهن سوريا لروسيا؛ وصولاً إلى القيام بالتوقيع عن سوريا في مختلف المحافل والمؤسسات الدولية؛ وغيرها من القضايا التي تلغي أي نوع من السيادة.

يلمح قارىء بيان "أستانا" السادس عشر وقاحة مغلّفة بالحرص عندما عبّر "الضامنون" عن قلقهم على الثروات السورية في الشمال الشرقي السوري

في تلك الرسالة "العبّودية المخابراتية" تهديد بإيران، وتوعّدٌ بتسليط ميليشياتها على الروس؛ إلا أن الروس ردوا بمزيد من خنق المنظومة عبر ترك الحبل قليلاً لمزيد من الشرَه الإيراني، وإجبار النظام على إلغاء "العبود" كلياً، وشحط النظام إلى جولة في جنيف، وسحب توقيعه على مزيد من عقود الإذعان، وفتح الملف المالي للعائلة؛ وخاصة السعي لوضع اليد على ودائعها الخارجية.

في الجانب المادي هذا، وإضافة إلى وضع اليد على مقّدرات سوريا، يلمح قارىء بيان "أستانا" السادس عشر وقاحة مغلّفة بالحرص عندما عبّر "الضامنون" عن قلقهم على الثروات السورية في الشمال الشرقي السوري ناسين أو متناسين أنهم فعلوا بسوريا وأهلها، بسبب هذه المنظومة الاستبدادية، ما هو أكثر من وضع اليد على ثروات سوريا؛ إنهم يعملون على احتلال سوريا حاضراً ومستقبلا.

من جانب آخر، وفي سياق البيان الصادر عن اجتماع "أستانا" الروسي، ورغم تكرار المقولات الواردة فيه للمرة السادسة عشرة؛ فإن الأدرى بما ورد من هراء في ذلك البيان هو نظام الاستبداد. فعندما يستهل البيان بنوده بالتأكيد على استقلال وسلامة وسيادة سوريا في الغياب المطلق لهذه المبادئ، فهذا يشكل الإهانة المطلقة للنظام الذي يدّعي ذلك ليل نهار.

الأمر الصارخ في وقاحته بين دفات البيان يتمثل بإدانة الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا التي تنتهك القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وسيادة سوريا. (والمقصود استهداف ميليشيات إيران في سوريا). يعرف نظام الأسد أكثر من غيره أن إيران وروسيا وغيرها من قوى عسكرية، لم تأت للاصطياف في سوريا؛ ويعرف أيضاً مَن ينسق مع إسرائيل أو يزوّدها بالإحداثيات. فهل كل هذا اهتمام بسيادة سوريا وسلامتها.

الأمر الأخطر، والذي يريح منظومة الاستبداد، هو أن كل ما يعرقل، وحتى يقتل، القرار الدولي 2254، قد وجد طريقه إلى بيان أستانا. فعندما حوّلت أستانا بند "الوقف الشامل لإطلاق النار في سوريا" إلى "خفض تصعيد" بالتقسيط، يسهل خرقه وقضمه؛ فهذا الذي يريده "النظام". وعندما تحدّث عن مقاومة الإرهاب، فالمنظومة هي الأدرى بأن ذلك هو السلاح الأمضى للتعمية ولسحب الأنظار عن إجرامها وإرهاب حُماتها، والتذرّع بداعش صنيعتهم. أما "حماية المدنيين وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار"، فالمنظومة الاستبدادية وحماتها هم الأدرى بمن حوّل حياة المدنيين السوريين إلى جحيم، ومَن شردهم، ومَن دمّر البنية التحتية السورية من مدارس ومشافي ومنشأت اقتصادية. وأصحاب البيان ذاتهم يعرفون مَن فعل ذلك، ويعرفون الاستعداد لتكراره في الظرف ذاته.

وفي الجانب السياسي من البيان- والذي لا علاقة لأستانا به أساساً- وعندما يعبّر البيان عن قناعة بأن اللجنة الدستورية يجب أن "تحترم الاختصاصات والقواعد الإجرائية الأساسية لتتمكن من تنفيذ ولايتها المتمثلة في إعداد وصياغة إصلاح دستوري"، فالكل يعرف أن الروس وإيران ومنظومة الاستبداد جعلوا من هذا الجانب أداة ابتزاز، وتضييع وقت، لتمرير مسرحية انتخابية تنسف كل القرار الدولي واللجنة وعملها؟

اللافت في بيان أستانا كان الترحيب بما تمت تسميته "العملية الناجحة للإفراج المتبادل عن المعتقلين في 2 يوليو / تموز". فعن أية عملية يتحدث هؤلاء الذين لم يسألوا أنفسهم عن مصير عشرات بل مئات آلاف السوريين في معتقلات منظومة الاستبداد؟ وهل المسألة مسألة تبادل؟ ماذا عن أكثر من خمسين ألف سوري قضوا في معتقلات "النظام" تحت التعذيب؟ وإذا كان ملف المعتقلين هو أحد أهم القضايا التي ادعى الروس أن أستانا وُجِدت أساساً من أجله (كإجراء بناء ثقة)، فلماذا للآن لم يتمكن الروس من إخراج معتقل رأي واحد من مقابر الأحياء؟ ألا يثبّت وضع كهذا أن ليس لإجرام "النظام" شبيه إلا نظام بوتين؟!

كل مَن أجرم بحق سوريا وأهلها، لا بد من أن تلاحقه العدالة؛ وهي قضية إنسانية

إذا كان "الضامنون" صادقين، فعليهم أن يدركوا أن القضية السورية سياسية بامتياز. سوريا تحتاج إلى انتقال سياسي، كي تنتهي من هذا الوباء. والقرار الدولي بالانتظار. والقضية قانونية؛ فكل مَن أجرم بحق سوريا وأهلها، لا بد من أن تلاحقه العدالة؛ وهي قضية إنسانية؛ فابتزازها تحت هذه اليافطة، ليس إلا من شيم المجرمين، وما على هؤلاء إلا أن يعلنوا عن أنفسهم كقوى احتلال؛ أو على الأقل انتداب؛ وبذا يرتاحون ويريحون، فأميركا تلعب بالجميع. الأهم من كل ذلك على السوريين جمع كلمتهم وعقولهم وإرادتهم وتجديد ثورتهم. لقد رخّص بعض من انتفض على منظومة الاستبداد أنفسهم لدرجة الاستباحة لحقوقهم وأرواحهم في عالم بغيض لا يعرف إلا لغة وقانون القوة. لا بد أن يرى كل مستبيح لسوريا الأكفان تغرّقه. دَفَعَ السوريون دماً كثيرا؛ ومَن شرب البحر، لا يغص بالساقية.