تكتيكات أمنية من ثورة حلب السلمية

2019.11.04 | 17:46 دمشق

4454545.jpg
+A
حجم الخط
-A

"طالع الفيسبوك.. وين الفيسبوك ولا؟!"
هذه ليست أسطورة من صنع الخيال يتناقلها السوريون للسخرية من مخابرات نظام الأسد، فالعديد من الثوار كان عليهم الإجابة عن هذا السؤال عند اقتحام "زُوّار الليل" منازلهم لاعتقالهم بدايات الثورة السورية، وهكذا لم يكن على الثوار التعامل فقط مع نظام وحشي.. بل وغبيّ بطريقة مستفزّة!

وبالرغم مما أعطاه تخلّف النظام للناشطين من أفضلية، إلا أن التفكير في أن هؤلاء من يُحكِمون قبضتهم على البلاد ويَحُولون بين أبنائها ومستقبلهم.. كان مزعجاً حقاً!

لم يدم ذلك طويلاً على أيّة حال.. فقد احتاجت أجهزة الأمن -التي تُضَخّ فيها ميزانية البلاد- خمسة شهور لمجاراة شباب لا يملكون إلا آمالهم بالحرية.

حَمَل رمضان الثورة الأول إلى حلب زخماً غير مسبوق في حراكها الثوري، ففي الوقت الذي عُدتُ فيه إلى المدينة نهاية الشهر الكريم بعد اجتياح جيش النظام محافظتي ديرالزور وحماة كانت المظاهرات فيها تخرج يومياً بعد صلاة التراويح في عدة نقاط، وصولاً إلى مظاهرة "بدر حلب" أواسط شهر آب والتي وصل فيها المتظاهرون إلى ساحة سعد الله الجابري في مركز المدينة، أما أيام الجُمَع فقد شهدت تجمّعات ضخمة للمتظاهرين كان أكبرها في حي الصاخور في جمعة "لن نركع إلا لله" والتي كشّر فيها "الشبيحة" عن أنيابهم قاتلين ثلاثة متظاهرين باستهداف مباشر، ليخرج أهالي الحي والثوار من عموم المدينة في مسائية مهيبة كأول تشييع للشهداء فيها.

استهداف المتظاهرين في حي الصاخور في جمعة لن نركع 12-8-2011

سقوط شهداء في مظاهرة حي الصاخور في جمعة لن نركع 12-8-2011

 

تلك لم تكن المرة الأولى التي يَقتُل فيها شبيحة النظام متظاهرين في حلب، فقد سبق لهم قتل الشهيد "محمد أكتع" أواسط حزيران في حي سيف الدولة في جامع آمنة، المسجد الذي تحوّل إلى نقطة تظاهر دورية بشكل أسبوعي بعد أن شهد أول مظاهرة مصورة في المدينة، والذي أفرزت له أجهزة الأمن مجموعات كبيرة من الشبّيحة والعناصر من الأفرع المختلفة، أخذت على عاتقها قمع أصوات الثوار الهاتفة للحرية بـ "الشّنتيانات"  و"البواري" وما شابهها من صنوف السلاح الأبيض، مركّزين بشكل أساسي على كل من يحمل "موبايلاً" لتصوير ما يحدث، وهو ما دفع أحد الناشطين لاستخدام "كاميرا سرية" ثبتها على قميصه في إحدى جُمَعِ شهر تموز لتوثيق انتهاك قطعان الشبيحة لحرمة المسجد، والوحشية التي يتعاملون بها مع المتظاهرين.

مقطع الكاميرا السرية الذي يوثق ضرب المتظاهرين داخل جامع آمنة بتاريخ 22-7-2011

مع بدايات الثورة في مدينة حلب انتظم حراك مجموعتنا ضمن بنية صارمة، وضَمّتْ المجموعة عدداً من أبناء المدينة وأبناء المحافظات الأخرى ممّن يدرسون في جامعتها مُوزَّعين ضمن مجموعات صغيرة لكل منها مُنَسِّق، وكان للمجموعة نوع من الإدارة تقرر مكان التظاهر بعد دراسة لمداخله ومخارجه، إضافة إلى تقسيم المهام بين مجموعة بداية ومجموعة حماية وعدد آخر من الناشطين لتوثيق المظاهرات، فضلاً عن اختيار الهتافات واللافتات وإقامة جلسات التقييم لكل خطأ نقع فيه منعاً لتكراره، إلا أن أهم ما عملت عليه إدارة المجموعة كان طريقة التواصل بين أفرادها ومُنَسِّقي المجموعات الصغيرة، بحيث تضمن حمايتهم في حال إلقاء القبض على أحدهم.

"محمد" من طلاب السنة الخامسة في كلية العمارة من أبناء ديرالزور هو أحد أعضاء هذه الإدارة، وربما يكون أكثر من التقيتُه هَوَسَاً بالتنظيم والدقة والحماية لدرجة مبالغ فيها في بعض الأحيان، فمثلاً عندما نجتمع مع منسِّقين من مجموعة جديدة، كان يغير المكان أكثر من مرة إضافة إلى نَزعِه "البطارية" و"شريحة الاتصال" من "موبايله" بداية الاجتماع مطالباً الآخرين بالمثل، وحرصه الدائم على التعريف عن نفسه في كل اجتماع باسم جديد، ثم يقوم بتجربة المجموعة الجديدة في مظاهرة مزيفة لاختبار كونهم غير مخترقين ولحصر الأعداد، وإليه يعود الفضل –على حد علمي- في تنظيم طريقة التواصل بين أفراد الإدارة بين بعضهم وبين مُنَسّقي المجموعات عموماً، لنَقْلِ مواعيد المظاهرات وأماكنها والتي تتم بين أفراد المجموعة مشافهة حصراً وفي لقاء مباشر.

في حال أردتُ التواصل مع محمد لأي سبب، كان عليّ أن أستخدم إحدى "كبينات" الاتصال المنتشرة في كثيرٍ من شوارع المدينة، فأطلب رقم جواله مسلّماً عليه دون ذكر اسمي أو اسمه، وأخبره بحاجتي للقائه في الساعة الفلانية دون أيّ ذكر للمكان، ففي كل لقاء يتم تحديد مكان اللقاء القادم مسبقاً ويُترَك الموعد للاتصال، فإذا تغير أي من هذه الشروط كأن أتواصل معه من رقم جوال أو أحدد مكان اللقاء فذاك يعني أنّي معتقل ومجبر على هذه المكالمة لتسليمه، والأمر نفسه يتم في حال أراد هو التواصل معي أو أراد أي من أفراد المجموعة التواصل مع آخر.

شكّلت حادثة تصوير الشبيحة في جامع آمنة نقلةً في طرق توثيق الناشطين لانتهاكات الأمن في المدينة، فتزايد الطلب على هذا النوع من "الكاميرات السرية" التي كانت تأتي بأشكال مختلفة على شكل قلم أو مفتاح سيارة أو نظارات...إلخ، ولأن بيع تجهيزات كهذه أمر محظور والحصول عليها يتطلب شبكة من المعارف لإدخالها من خارج القطر، فقد وجد الأمن في ذلك فرصة ذهبية لاصطياد ناشطي المدينة، عبر الاتفاق مع عدد من بائعي التجهيزات الإلكترونية لتأمين الكاميرات للناشطين بأسعار مقبولة "وبسرية تامة".

تزايدت درجة القمع في المدينة حتى وصلت ذروتها في حادثة حي الصاخور، ما دفع كثيراً من الناشطين المتحمسين للمجازفة بشراء "الكاميرات السرية" من أي مكان تتوافر فيه حتى وإن لم يضمنوا ثوريته، فتم إلقاء القبض على عدد كبير منهم، أُجبِرَ بعضهم تحت التعذيب على التواصل مع أفراد تنسيقياتهم لتسليمهم، فشهدت المدينة أكبر حملة اعتقالات فيها منذ بداية الثورة في نهايات شهر رمضان/آب من عام 2011.

في تلك الفترة تلقيتُ اتصالاً من "أبو وليد" منسق مجموعة من حي سيف الدولة..

حاول أبو وليد أن يبدو طبيعياً رغم ارتجاف صوته وهو يطلب منّي اللقاء لأمر مهم، ولأن خبر اعتقاله لم يكن قد وصلني بعدُ اقترحتُ الساعة السابعة مساءً موعداً للقاء، وافق أبو الوليد وأضاف:

"تعال عند بريد سيف الدولة.. تمام.. عند البريد.."

"نعم!! وين؟؟" سألتُ مرتاباً فقد كان موعد لقائنا الذي حدّدناه مسبقاً عند "الخزان الأرضي" في الحي نفسه..

"عند البريد خاي.. رح كون واقف عالطرف التاني.. لا تتأخر"

أغلق أبو وليد الخط بعد أن أنقذني بإصراره على المكان مُذكّراً إياي باتفاقنا، ثم كرر الاتصال في الساعة السابعة دون إجابة منّي، لتكون تلك آخر أخباري عنه حتى يوم الناس هذا..

كما استقبل عدد من أفراد مجموعتنا اتصالات مشابهة تمّ فيها جميعاً تحديد مكان اللقاء، ولم يتم التجاوب مع أيّ منها فَسَلِمَتْ مجموعتنا من حملة الاعتقالات تلك، لكن تنسيقيات حلب تلقّت ضربة موجعة باعتقال أعداد كبيرة من ناشطيها، حتى انتشر بين ثوار المدينة القول: "ثورة حلب عيّدت بالفروعة"

كانت خطة أفرع الأمن في حلب خطيرة على حراكها، لكن ثورتها نَجَت منها بفضل تكتيكات شبيهة بتلك التي كُنا نتّبعها في مجموعتنا، كالاعتماد على كلمة سرّ في الاتصال تُنَبّه المتلقّي أنّ مَن يتصل به معتقل.. وغيرها من الأساليب..

لتُكمل المدينة حراكها الثوري بشكل تصاعديّ حتى تمكن الثوار من حجز أحياء كاملة كمساحات تظاهرٍ دائمة شبه محررة من الأمن وشبيحته.

لكن تلك قصة أخرى..