في الواقع، وبالتزامن مع دخول ترامب البيت الأبيض، بدأت وزارة الدفاع "البنتاغون" خطوات جدية لوضع ومناقشة الخطط التي تقضي بتقليص أو سحب جميع القوات الأميركية الموجودة في سوريا.
جاء ذلك نتيجة لاهتمام الرئيس الأميركي وكبار أركان إدارته بالعمل على تنفيذ هذا الانسحاب بعد تصريح ترامب في تغريدة في الفترة الأخيرة التي سبقت سقوط النظام البائد، بأنَّه لا مصلحة للولايات المتحدة في الذي يجري في سوريا. وعليه، وبالاستناد إلى توجيهاته الرئاسية، وفي شهر فبراير الماضي من هذا العام، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية بيانًا أعلنت فيه أنه سيتم تقليص عدد القواعد والوجود العسكري الأميركي في سوريا إلى خمس قواعد فقط، وذلك خلال فترة من 30 إلى 90 يومًا، وتخفيض عدد الجنود من 2000 جندي إلى 1000 فقط خلال الأسابيع القليلة المقبلة. طبعًا، هذه الخطوة وصفتها الوزارة بأنها ستكون عملية مدروسة ومشروطة، وتتناسب مع تطورات المواقف والمهام القتالية والانتشار والتموضع الجديد المخطط له بعناية خاصة. كما أعلن المتحدث الرسمي الرئيسي للوزارة، "شون بارنيل"، عن عزم واشنطن القيام بإجراءات ميدانية لتوحيد ودمج القوات الأميركية في سوريا تحت قيادة قوة المهام المشتركة الرئيسية للتحالف، والتي أطلق عليها اسم عملية "العزم الصلب"، وسيكون انتشارها في مواقع وقواعد أقل عددًا ومختارة بعناية، وبحسب قرار القادة العسكريين وفكرة الأعمال ورؤيتهم الميدانية. وعليه، فلا شك أن إجراءات تقليص عدد القوات الأميركية تعكس الخطوات الكبيرة التي قطعتها الولايات المتحدة والتحالف في تقليص أخطار وقدرات تنظيم الدولة التشغيلية إقليميًا وعالميًا.
حقيقة ودلالات وأبعاد تقليص الوجود الأميركي في شرقي الفرات
لا شك أن تفكير واشنطن بالانسحاب الجزئي من سوريا وإغلاق قواعدها بالكامل في جنوب الرقة وشرق دير الزور (حقل العمر للغاز، كونيكو) يعتمد على فكرة جوهرية، وهي توفر الإرادة والقرار بالخروج من المناطق العربية باتجاه العمق (محافظة الحسكة والجزيرة).
ولكن بالمقابل، قامت القوات الأميركية وعملت على تعزيز وجودها العسكري في قواعد (الشدادي، قسرك، خراب الجير) وغيرها. وبالتأكيد، يأتي كل هذا مستندًا وخاضعًا إلى إجراءات ودراسات دقيقة قام ويقوم بها كبار مخططي وزارة الدفاع والقيادة المركزية الأميركية، والهدف من ذلك ينحصر في إعادة تقييم التدخل والوجود الأميركي في سوريا، والذي تعتمد فكرته الرئيسية أخيرًا على الابتعاد عن البصمة والوجود العسكري الواسع نحو التفكير بوجود انتشار أكثر محدودية وأكثر قوة ومرونة، مع التركيز على تعزيز الوجود في المواقع الاستراتيجية والمقار الرئيسية التي تسيطر عليها ميليشيات قسد مثل (قاعدة الشدادي ورميلان الجوية) في الحسكة، والتي يمكن أن تبقى تحت السيطرة الأميركية لمدة غير محددة في الوقت الحاضر.
ملفات وقضايا أميركية أهم
مع تقليص قدرات تنظيم الدولة خلال السنوات العشر الماضية، ومن الناحية الميدانية، فلا شك أن خطط الانسحاب الأميركي المحدود من سوريا جاءت لتدلَّ دلالة واضحة على تراجع الاهتمامات الأميركية الملحوظة في منطقتنا العربية، وعدم وجود الرغبة الكافية والملحة لدى إدارة ترامب في الانخراط الواسع في مشكلات وصراعات الشرق الأوسط، بل وانتقال الاهتمامات والأولويات الأميركية إلى مناطق أخرى تعتبرها واشنطن أكثر حيوية وضرورة لمصالحها الاستراتيجية، معتمدة في ذلك على التفكير الجدي والمسؤول بالوسائل والطرق والكيفية التي ستتبعها في مواجهة ملف إيران النووي والصاروخي، والحرب الروسية الأوكرانية، والصعود والمد الصيني الذي تعتبره واشنطن، وفقًا لحساباتها الخاصة، مهددًا لاستقرار النظام الدولي والعالمي، خاصة مع ارتفاع نسب التوترات العسكرية في بحر الصين الجنوبي، ودخول كلٍّ من بكين وواشنطن في حرب اقتصادية شرسة طويلة بعد القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس ترامب وقراره في رفع التعريفات الجمركية بنسب كبيرة جدًا على المنتجات الصينية.
تأثيرات الانسحاب على قسد والمنطقة
في الواقع، وبعد إعلان الإدارة الأميركية عن بدء العمل على تقليص عدد قواتها في سوريا قبل الوصول إلى اتخاذ قرار الانسحاب الكامل الذي لن يطول توقيته ربما؟ فقد حرصت واشنطن والتحالف في الفترة الأخيرة التي تلت إعلانها هذا والذي تزامن مع انتهاء حقبة الأسد المجرم على مسألة تعتبرها مهمة لحليفتها قسد، وهي العمل على تخفيض نسب التصعيد والتوترات بين الإدارة السورية الجديدة وهذه الميليشيات في شمال شرقي سوريا. لأن انسحاب واشنطن الكامل من شرقي الفرات يعني ميدانيًا وقوع "قسد" بين مطرقة تركيا من الشمال وسندان جيش سوريا الوطني من الجنوب بعد أن أحكمت السلطة الجديدة في دمشق السيطرة على البلاد. وبناءً على ذلك، فقد زار قائد القيادة الوسطى الأميركية الجنرال (مايكل كوريلا) مناطق شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها قسد ثلاث مرات في الأشهر الأربع الماضية، من أجل دفع وتشجيع الأكراد على التقارب والتعاون السريع والهادف مع حكومة دمشق للتفاهم على مستقبل منطقة شمال شرقي سوريا، ومستقبل ودور الأكراد فيها، بالوقت الذي تكون فيه القوات الأميركية لا تزال منتشرة على الأراضي السورية وقبل الانسحاب الكامل، على أمل أن يساعد قيادات قسد بالمفاوضات المباشرة مع الحكومة السورية في الحصول على بعض التنازلات أو مطالب معينة من السيد الشرع وحكومته. وعليه، فقد قامت واشنطن برعاية حوار بين الأكراد والحكومة السورية الجديدة في دمشق والقامشلي من أجل تنظيم دمج منطقة شرق الفرات في سوريا واحدة موحدة، وأسفر الجهد الأميركي المبذول عن توقيع مظلوم عبدي في 10 آذار الماضي اتفاقًا تاريخيًا مع حكومة دمشق يقضي بانسحاب قسد من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية في حلب والعمل لاحقًا على إدماج شرقي الفرات بمؤسسات الدولة السورية المدنية والعسكرية، رغم ما يلاقيه هذا الاتفاق من عقبات تضعها قسد وقيادات قنديل لتأخير تنفيذ ما تم التوافق عليه.
من جانب آخر، تتخذ واشنطن حقيقة خطوات تمهيدية لانسحابها، وكنا قلنا عن طريق دفع التوافق بين قسد والحكومة السورية الجديدة ودفع التفاهم بين تركيا وإسرائيل على مصالح كلٍ منهما في سوريا، وضبط معادلات النفوذ بين كل من تركيا وروسيا، وخاصة مع سعي الدولتين إلى السباق والاستعداد لملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأميركي هذا إن حدث فعلاً. وبالتوازي مع ذلك، ستستمر الولايات المتحدة في ممارستها الضغوط القصوى على الرئيس الشرع من أجل دفعه إلى انتهاج مسار سياسي وعسكري يضمن تحقيق أهم هدفين للسياسة الأميركية في سوريا، وهما: عدم تحوّل سوريا إلى ملاذ آمن للإرهاب والإرهابيين، وعدم تهديد إسرائيل وأمنها القومي بأي طريقة من الطرق.
خاتمة
في وقت سابق، أعرب الرئيس السوري أحمد الشرع عن حرصه ورغبته في عودة العلاقات بين سوريا والولايات المتحدة إلى أوضاعها الطبيعية، ورفع العقوبات المفروضة على دمشق. ولكن في الوقت ذاته، اعتبر الرئيس الشرع أن أي وجود عسكري أجنبي في بلاده يجب أن يكون بموجب اتفاقيات رسمية مع الدولة السورية. أما بخصوص سياسة واشنطن، فلا شك أن الإدارة الأميركية تريد أن تبني رؤيتها وسياساتها الاستراتيجية بما يخص الشأن السوري وتعاملها مع الحكومة الجديدة على معطيات أساسية ثلاث يأتي على رأسها: التأكد من استمرار هزيمة تنظيم الدولة، وعدم عودة نشاطاته المقلقة، وتوفير البنية التحتية اللازمة لمكافحته من قبل دول المنطقة، أما الثاني فهو، وكما قلنا، التأكد من أن سوريا لن تشكل خطرًا إقليميًا على أي دولة، وخاصة إسرائيل، وألا تكون ملاذًا للإرهاب، أو محطة انطلاق لأي عمليات لزعزعة الاستقرار في المنطقة. أما الثالث فهو تأكد الولايات المتحدة من أن سوريا لم تعد محطة لإيران وروسيا في الشرق الأوسط.