تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية: لا مفر من معاقبة الأسد

2020.04.12 | 00:01 دمشق

17186251_303.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد صدور أحدث تقرير أعدته منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، تتويجاً للتحقيق المطوّل والدقيق في الهجمات الكيماوية على بلدة اللطامنة عام 2017، وثبوت مسؤولية النظام الأسدي بارتكاب هذه الجريمة، قال فرناندو أرياس، المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، "يتعين الآن على المجلس التنفيذي ومؤتمر الدول الأطراف في معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، وعلى الأمين العام للأمم المتحدة وعلى المجتمع الدولي برمته، أن يقوموا باتخاذ الإجراء الذي يعتبرونه مناسباً وضرورياً".

الأدلة الدامغة والوقائع التفصيلية، ابتداء من التحضيرات اللوجيستية إلى كيفية القصف وصولاً إلى التركيبة الكيماوية لغاز السارين المطابقة لما سلمه النظام لمنظمة الحظر عام 2013، بالإضافة إلى تحديد أسماء الضباط والمهام المحددة التي قاموا بها، والتي يقدمها التقرير (81 صفحة)، تثبت على نحو لا لبس فيه مسؤولية جيش النظام وطيرانه الحربي عن الهجمات الكيماوية تلك. وقد تعذر على روسيا عرقلة التحقيق أو تفنيده، كما عجز النظام أن يقدم أي إثبات مغاير للاستنتاجات التي خلص إليها فريق التحقيق.

بناء على متانة وصلابة التقرير وشموليته، تجرأ فرناندو أرياس أن يطلق تصريحه المذكور، الذي يقول بوضوح: هذه هي تفاصيل الجريمة وأدلتها التي لا تُدحض، وهؤلاء هم المجرمون بالأسماء وبالأدوار التي قاموا بها، وها هي الجهة المخططة والآمرة والمنفذة.. ماذا أنتم (الأمم المتحدة والمجتمع الدولي برمته) فاعلون؟

منذ القرار المشؤوم للرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، بالامتناع عن تنفيذ "العقاب المناسب" ضد النظام، والاكتفاء بسياسة العقوبات التي تحاصر الأسد وتضعفه ولا تسقطه، بالتزامن

في لحظة "الرعب البيولوجي" الذي يهيمن على العالم مع جائحة كورونا، أيقظ التقرير الأممي، المحترف والموثوق، ذاكرة "الرعب الكيماوي" الذي عاشه السوريون مرات ومرات

مع تسليم سوريا إلى روسيا، والقبول الضمني بتقاسم النفوذ مع إيران، لم يعد المجتمع الدولي (ولا مجلس الأمن المعطل بالفيتو الروسي – الصيني)، بوارد ما سماه فرناندو أرياس "اتخاذ الإجراء المناسب والضروري". وهو التعبير الدبلوماسي الذي يعني: معاقبة الجاني.

في لحظة "الرعب البيولوجي" الذي يهيمن على العالم مع جائحة كورونا، أيقظ التقرير الأممي، المحترف والموثوق، ذاكرة "الرعب الكيماوي" الذي عاشه السوريون مرات ومرات. ذاكرة الرائحة والدخان والاختناق ولفظ الأنفاس الأخيرة للرضع والأطفال والنساء والشبان والرجال في موتهم الجماعي والغادر.

الأسى الذي يوحد البشرية اليوم من مشاهد المستشفيات والإسعافات والضحايا الأبرياء الذي يفتك بهم عدو غير مرئي ولا يرحم، هو عينه الشعور بالألم والعجز والقهر عندما نتذكر تلك الليلة بغوطة دمشق في صيف عام 2013، حين مات نحو 2000 شخص دفعة واحدة بالغازات القاتلة. عائلات نائمة لم تستيقظ أبداً. ملاجئ تكوم فيها الأطفال والنساء ليتحولوا إلى جثث هامدة.

الجريمة التي تكررت في عدة مناطق، كخان شيخون واللطامنة، كأنما النظام الأسدي أراد باستمرار الحرص على عدم نسياننا لما يستطيع هو اقترافه، بل ورغبته الوحشية وإصراره على تذكير السوريين (والعالم) بماهيته وطبيعته وقدرته اللامحدودة على الإجرام.

التقرير الأممي نفسه عاد ليذكر العالم أن المأساة التي يشهدها اليوم بفعل "عامل بيولوجي" نفثته الطبيعة كلعنة على تهور البشر، تماثل المأساة التي أصابت سكان سوريا بفعل "عامل كيماوي" قصفه أحد أسوأ الأنظمة في العالم وأشدها انحطاطاً وأشبه بلعنة دموية أصابت شعباً.

أذكر تماماً تلك الصرخة التي أطلقها أحد مواطني الغوطة: "لم يبق لدينا أطفال في الغوطة". فهي توجز "سياسة" بشار الأسد وجيشه، بوصفها إبادة. توجز أي مصيبة عاشها ويعيشها السوريون.

والآن إذ نعرف تماماً، على ضوء السياسات المهيمنة دولياً، أن النظام لا يزال بمنأى عن العقاب المناسب والضروري، إلا أن الفريق الأممي الذي امتازت مهمته بصلاحية قانونية لتحديد المسؤولين وتسميتهم، يفرض بتقريره واقعة حقوقية وتاريخية غير قابلة للسقوط بالتقادم. أي أنها، كأي جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بمرور الزمن. المسؤولون عنها سيظلون تحت تهديد الملاحقة والمحاسبة مهما طال الوقت.

وعلينا أن لا ننسى أن الإبادة الممنهجة التي مارستها النازية وما سببته من جروح عميقة في الوعي الأوروبي، وما ترتب عليها في نظام القيم والأخلاق السياسية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، أسست ثقافة حقوقية وسياسية وأخلاقية قامت على ملاحقة كل فرد أو مؤسسة ساهما في تلك الجرائم، ومحاسبة ليس فقط الأشخاص بل أيضاً الأفكار التي سوغت ارتكاب الجريمة. وحتى اليوم، فإن المرجعية الأولى للذاكرة الإنسانية هي "لن نسمح بتكرارها أبداً".

هذه المرجعية أتاحت ملاحقة هذا الصنف من المجرمين، أنظمة وحكومات وأفراد، أكان ذلك ضد "الخمير الحمر" في كمبوديا أو ضد زعماء الحرب في رواندا من الهوتو، أو ضد زعماء صربيا، أو حتى ديكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه.

إن عالمنا الذي يبدي اليوم حرصاً على حياة البشر أينما كانوا، ويتعاضد من أجل مكافحة الوباء الشرس، إنما تحكمه قاعدة احترام حياة الناس وحقهم بالصحة والأمان والاستشفاء.. حقهم بالكرامة والعدالة، بغض النظر عن فداحة الصراعات السياسية والنزاعات الدموية الناشبة.

وما بعد كورونا، حين يستعيد مواطنو هذا العالم عافيتهم، مكتسبين العبر الأخلاقية العميقة من جراء تلك التجربة الإنسانية المشتركة، سيجدون أمامهم "الحقيقة السورية"، بوصفها جرحاً للإنسانية، وذنباً هائلاً في الضمير العالمي، ولا يمكنه إشاحة وجهه عنها.

ليس فقط هذا التقرير، لكن كل ما تم توثيقه وتثبيته، يشكل عبئاً على مستقبل العالم وعلى شعوب هذه المنطقة. ولا يمكن التخلص من هذا العبء إلا عبر محاسبة طويلة الأمد. محاكمة ستمتد عبر أجيال.

ومهما تأخر تنفيذ وصية منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، فلا الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي، يستطيعان إغفال المهمة الملقاة عليهما: معاقبة الفاعلين. ليس من أجل تحقيق العدالة للشعب السوري، ولكن أيضاً كي تبقى عبارة "لن نسمح بتكرارها أبداً"، التي أتت بعد تحرير معسكرات الإبادة (الهولوكوست)، محتفظة بمعناها.. ولكي نصون العالم من الهلاك، بيولوجياً وكيماوياً وأخلاقياً.