تقاطع الاستبدادات وتراتبية الثورات عليها

2022.03.03 | 05:26 دمشق

000_nic6284375.jpg
+A
حجم الخط
-A

الاستبداد ليس هو ذلك الوصف الذي يطلق على بعض الأنظمة العربية الديكتاتورية أو الانقلابية فحسب، وليس خاصا بالمجال السياسي، بل هناك أنواع عديد من الاستبداد وهي كلها تغذي بعضها بعضاً، ابتداءً بالاستبداد الاجتماعي الأسري وصولا إلى استبداد الديكتاتور وبطش رجل الأمن ووحشية الجلاد.

وابتداءً من أسفل سلم الاستبداد حيث الذكر الأب أو الأخ الأكبر المتجبّر في الأسرة بدعوى لعب دور الحامي أو الرقيب الأخلاقي والموجّه المعنوي مانعاً لفعل أو رافضاً لرأي، إلى الاستبداد الاقتصادي حيث استبداد صاحب المال وتحكّمه بعماله وفلاحيه وموظفيه، عملا وأجورا، إلى استبداد بعض رجال الدين في تفسير النص لصالح الحاكم وفي فتاوى المنع والتحليل لصالح النظام .

ورغم الإقرار بأنواع الاستبداد يبقى الاستبداد السياسي أخطرها، سواء أكان استبداد نظام سياسي يمارسه الحاكم ويمارسه باسمه من هم دونه من رجال السلطة، أو كان استبدادا سياسيا حزبيا تمارسه هيئة مركزية أو يمارسه زعيم حزب داخل حزب سياسي منغلق فكريا وأيديولوجيا، بحق أعضائه وأنصاره .

واستبداد الحكم المطلق ومن في حكمه، هو شر أنواع الاستبداد وذروتها، لأن فيه تجتمع كل السلطات، وإليه تعود كل المرجعيات، بما فيها الدستور والهيئات التشريعية والتنفيذية، وبيده مصير الأمة يفعل بها ما يشاء.

والحاكم مطلق اليد في حكمه أصل كل استبداد وخزّانه الذي لا ينضب، فهو أشبه ما يكون بالبحر الذي تجتمع إليه الأنهار، فلولا الأنهار ما كان ممكنا للبحر أن يبقى ممتلئا قويا هادرا .

مما تقدم نخلص إلى فائدة مثلى، وهي أن من يعارض حاكما مستبدا يفترض به قبل معارضته هذه وبعدها أن يكون معارضا لبقية أنواع الاستبداد، أي الاستبداد الاجتماعي والاقتصادي والديني، وإلا فإن معارضته تلك تكون محدودة ومؤقتة، فلو زال الحاكم المستبد وحكمه، لرجع الواحد منا لممارسة صمته تجاه سائر أنوع الاستبدادات جلها أو كلها.

ومما سبق يمكن الانتقال إلى تقديم أطروحة أساسية من اللازم عرضها للنقاش على شكل سؤال:

هل من الواجب على المجتمع كي تستقيم معارضته للحاكم المستبد ونظامه، فتكون ذات فائدة وإثمار، أن يعارض بقية أنواع الاستبداد؟

قد يكون من الضروري على أي مجتمع عربي كي تنجح ثورته على الاستبداد السياسي -ومنعا لانتكاسه إلى ما قبل مرحلة سقوط الحاكم المستبد- أن يمر بثلاث مراحل هي على التوالي:

أولاً: مرحلة الانتفاض على الاستبداد الاجتماعي ولاسيما على الهيمنة الأبوية أو "الذكور- الآباء" في الأسرة من دون ضابط .

ثانياً: مرحلة الثورة على الاستبداد الاقتصادي المعاشي أي استبداد أرباب المال والأعمال.

ثالثاً: مرحلة الثورة على الاستبداد الديني العقائدي ولاسيما هيمنة رجال الدين الناطقين باسم الحاكم المستبد .

في الحقيقة إن الأطروحة السابقة أعلاه بخصوص تلازم الثورة على الاستبدادت المتعددة غير واقعية، دائما، حتى لو كانت صحيحة نظريا، فهي غير ممكنة في كل مجتمع بالضرورة، وإن كانت ممكنة في بعض المجتمعات، من حيث التراتبية أو التدرج التاريخي.

فالمجتمع السوري مثلاً قام بقفزة تاريخية حرق بها ثلاث مراحل، ليصل إلى مرحلة الثورة على الاستبداد السياسي، لكن ذلك حدث لأسباب ضاغطة من ناحية ومساعدة من ناحية ثانية.

والأسباب المساعدة تعود لتفجر سلسلة ثورات عربية نجحت بإسقاط أنظمة سياسية عريقة وقوية، الأمر الذي شجع السوريين للثورة على نظامهم.

أما الأسباب الضاغطة الدافعة للانفجار الشعبي السوري الثوري في 2011 فتعود إلى كون النظام الحاكم في سوريا ليس نظام استبداد سياسي فحسب، بل هو إضافة إلى ذلك نظام استبداد اقتصادي نهبوي احتكاري أفقر السوريين وكاد يفني الطبقة الوسطى، كما أنه نظام يغذي بشكل خفي أنواع الاستبدادات الأخرى الاقتصادية منها والاجتماعية على الرغم من حرصه على الظهور بمظهر النظام العلماني .

أما الأسباب الضاغطة الدافعة للانفجار الشعبي السوري الثوري في 2011 فتعود إلى كون النظام الحاكم في سوريا ليس نظام استبداد سياسي فحسب، بل هو إضافة إلى ذلك نظام استبداد اقتصادي نهبوي احتكاري أفقر السوريين

والحقيقة أن هذا النظام فعل كل ما هو مؤذ للمجتمع السوري وللمجتمعات العربية المجاورة، فهو من ناحية رعى الإرهاب في العراق ولبنان، وأسس للتطرف والانغلاق الديني في سوريا قاعدة متينة وسمح بتمدد التطرف الديني القادم من الخارج مقابل خوّات مالية ضخمة .

وهو من ناحية ثانية وفي نفس الوقت تقريبا كان يشجع على انتشار الدعارة وتفشي المخدرات، ولا يبالي بالتسيب المدرسي مثلا الذي وفّر معظم منتسبي الحركات المتطرفة في سوريا .

والمجتمع السوري ليس هو وحده من حقق هذا الاختراق والقفز على "القانون الثوري الطبيعي" -إذا جاز التعبير- وهو المقابل النافي لمصفوفة "الاستبدادات: اجتماعي اقتصادي ديني" بل إن معظم المجتمعات العربية قامت بهذا الخرق، من دون أن ينجز أياً منها ثوراته ما قبل السياسية بشكل تام أو واضح.

نعم في سوريا تحقق خرق لهذه الأطروحة، أطروحة تدرّج الثورات على الاستبداد المتعدد، فنجحت الثورة ولم يسقط نظام الاستبداد.

وقد يكون الوضع السوري استثناءً، فلنذهب إلى نموذج عربي آخر، وليكن مصر، لقد أعقب نجاح الثورة في مصر، الوقوع في شرك السياسة الفئوية لصالح تيار سياسي ديني، وهذا هو ما كان متوقعا في مجتمع لم ينجز ثورته على الاستبداد الديني العام، أم على تمظهره السياسي الحركي.

فهل تكون الوصفة المثالية والمختصرة لأطروحة تدرّج الثورات، أن الثورة على الاستبداد السياسي في بعض المجتمعات -كما في المجتمعات العربية- هي الخطوة الأولى في سلسلة من ثورات، بحيث يجري تحقق عكسي "للقانون الثوري الطبيعي" أي ثورة من أعلى إلى أسفل؟ من السياسي إلى الديني فالاقتصادي فالاجتماعي مثلا؟ أو من السياسي فالاقتصادي فالاجتماعي فالديني؟

وهل نجاح ثورة على الاستبداد السياسي -ولو كان نجاحاً نسبياً- (المثال الوحيد عربيا على نجاح الثورة حتى الآن هو تونس قبل انقلاب قيس بوسعيد) يمكّنها لاحقا أن تتفرغ لبناء نظام عادل عاقل، ثم تتفرغ للتخلص من بقية أنواع الاستبدادت؟ إما بالثورة عليها واحدة إثر الأخرى، أو بتقليم أظافرها عبر إنضاج المجتمع، وهذا لا يتم إلا بحصول المواطنين على الكفاية المادية، وبالقانون والتعليم، أي بتحقيق العدالة الشاملة، وحينها يكفي أن تُسنّ القوانين التي تنظم مناحي الحياة من قوانين الأحوال الشخصية إلى قوانين العمل والضريبة إلخ.. وهو ما يعني ثورة على الهيمنة والاستبداد الاقتصادي .

وأما بالنسبة لأثر بعض رجال الدين في البلاد العربية الناطقين باسم أنظمتها والمباركين لها، فهو أثر لا ينفصل غالباً عن سلطة الأنظمة المستبدة فيها، فإذا ما تمّ الخلاص من تلك الأنظمة خفّ أثر هؤلاء، وتتكفل وسائل الإعلام الثورية وسائر الأنشطة الحيوية من تعليم وفنون ومناشط اجتماعية، في جو من الحريات، بإعادة بناء القيم الروحية للمجتمع ووضع الدين ورجاله في مكانهما الطبيعي بحيث لا يمكن للسياسيين استغلالهما لمصالح دنيوية أو حزبية ضيقة .