تعويذة موسكو التي اخترعها لينين

2021.08.05 | 06:09 دمشق

thumbs_b_c_bc939c9e491023321bad050c169beee7.jpg
+A
حجم الخط
-A

أطلق فلاديميير لينيين وصف "المغفلين المفيدين" على أولئك الأشخاص الذين تطوعوا لتسويق الدعاية السوفييتية وتبني روايتها عن المؤامرة الغربية، وكان التوصيف الذي ابتكره لينين أشبه بتعويذة أطلقها، حيث لم تنقطع خدمة هؤلاء لموسكو في كل حالة تحتاج فيها لدعاية مضادة وتضليل إعلامي لإخفاء أو التعتيم على مجزرة، ولعل والتر دورانتي مراسل نيويورك تايمز في موسكو قبل 89 عاماً، كان واحداً من أشهر أولئك "المغفلين المفيدين"، إذ نشرت صحيفة نيويورك تايمز عام 1932 مقالاً له ينفي فيه حدوث أي مجاعة في الاتحاد السوفييتي، وخصوصاً في أوكرانيا، بل ويهاجم الصحفيين الذين تحدثو عن المجاعة ويتهمهم بالإصغاء للإشاعات، بالواقع تندرج مقالات دورانتي ودفاعه الغرائبي عن نظام ستالين الوحشي ضمن خطة دعائية أشمل لستالين استطاع فيها، في تلك الفترة، إخفاء ما يسميه الأوكرانيين بـ" هولودومور"، أي الإبادة الجماعية عن طريق التجويع، التي راح ضحيتها نحو 6 ملايين مواطن أوكراني، بسبب سياسة ستالين بمصادرة الأراضي وإجبار الفلاحين على العمل في ما عُرف بالمزارع الجماعية ومن ثم مصادرة المحاصيل لتصديرها، ما ترك ملايين الفلاحين دون غذاء.

برز الجهد الروسي في محاولة إنكار قيام النظام السوري بقصف السوريين في الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً في 21 آب 2013

ورغم أن بعض الأشياء تغيرت منذ ذلك الوقت إلا أن أشياء أخرى لم تتغير، إذ يبدو السؤال عن إمكانية إخفاء مجزرة أودت بحياة الآلاف وأحياناً الملايين؟ يبدو منطقياً فمن المتوقع أن مرتكب المجزرة يسعى إلى إخفاء فعلته وإبعاد التهمة، ولكن في معظم المجازر كان الأمر أكثر تعقيداً، فالقاتل يريد أن يعرف الجميع بها وبالوقت نفسه سينكرها ويسعى لطمس تفاصيلها، هذه المعادلة التي تبدو صعبة لطالما استمتعت الأنظمة بتحقيقها وإن اختلفت الأساليب.

وطوّرت موسكو أساليب استخدام تعويذتها في تكريس الدعاية المضللة لإخفاء الحقيقة، وبرز الجهد الروسي في محاولة إنكار قيام النظام السوري بقصف السوريين في الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً في 21 آب 2013، وتدرجت الرواية الروسية من إنكار المجزرة بداية ومع ظهور الدلائل والصور المروعة عادت فعدلت إلى أن المجزرة وقعت لكن ليس بيد الأسد بل بيد فصائل الجيش الحر.

وبالعودة لدورانتي نجده ينكر المجاعة عبر تقديم افتراض غريب من نوعه، لا يمكن التصديق بأن صحفياً مثله يحيا في روسيا يمكن له الاقتناع به، يقول دورانتي في مقالته بأن ما يقال عن الجوع في روسيا هو حقيقي ولكنه ليس بتلك الدرجة التي تؤدي لموت الناس جوعاً، فكل ما حصل أنهم يموتون بسبب أمراض مرتبطة "بسوء التغذية"، فكل القصة بحسبه أن مبدأ المزارع الجماعية خلق شيئاً من الفوضى، بل إنه قال "الظروف سيئة ، لكن لا توجد مجاعة... - لنقولها بوحشية - لا يمكنك صنع عجة دون كسر البيض" في محاولته للقول أن غاية ستالين في إعادة البناء نبيلة ولكن لا بد من دفع الثمن.

يعيد بعض الصحافيين والناشطين الغربيين اليوم ما فعله دورانتي، فهم ينكرون أن أفعال النظام السوري وروسيا وإيران أدت لوقوع مجازر في سوريا، بل ينكرون حتى القصف، ويرون أن القصف يستهدف فقط الإرهاب، وأما كل تلك الفيديوهات ومئات آلاف الضحايا فهي إما مفبركة من قبل المخابرات الأميركية والبريطانية وإما أن فصائل المعارضة هم من استهدفهم.

في فترة الـ"هولودومور" فرضت السلطات السوفييتية رقابة مركزة على الصحافيين الأجانب ومررت لهم معلومات مضللة ومنعت عنهم الوصول إلى مصادر غير حكومية، وبالرغم من ذلك تمكن بعض الصحافيين من الهرب من الرقابة وظهرت مقالات قليلة في الصحافة الغربية تتحدث عن المجاعة والأوضاع الرهيبة التي يحياها الناس، ومن أبرز هؤلاء الصحافيين كان الصحافي البريطاني غاريث جونز، وهنا قام دورانتي بالجزء الثاني والأهم من مهمته حيث قام بمهاجمة جونز واتهمه بالجهل بالواقع الروسي وبالعمالة والبحث عن الشهرة.

من أهم أسباب نجاح الدعاية المضللة هو في استمراريتها وإصرارها على روايتها مهما بلغت من السخف ومهما تم دحضها

وفي الشأن السوري يقوم وكلاء موسكو بمهاجمة الصحافيين الغربيين والناشطين الذين تتبعوا مجزرة الكيماوي وجمع الأدلة على قيام الأسد بها، فاتهموهم بالعمالة والتبعية للمخابرات الأميركية، كما استهدفوا بشكل منهجي المنظمات الحقوقية التي تفضح جرائم النظام وروسيا وهكذا فإن الخوذ البيضاء على رأس أهدافهم بالإضافة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية. ومن أهم أسباب نجاح الدعاية المضللة هو في استمراريتها وإصرارها على روايتها مهما بلغت من السخف ومهما تم دحضها، وبالوقت نفسه الاستمرار بدفن الأدلة وملاحقة الشهود لترهيبهم وتغييبهم.

وتحدث الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في رواية "مئة عام من العزلة"، عن مجزرة وحشية يرتكبها الجيش ويتم إخفاؤها كأنها لم تكن وبالوقت نفسه يعلم جميع السكان أنها وقعت ولكنهم ينكرون قيام عشرات المدافع الرشاشة بحصد 3000 إنسان، بل واتهموا الناجي من المجزرة بأنه كان يحلم، وذلك امتثالاً لما قاله الضابط مبتسماً "من المؤكد أن ما رأيتموه كان حلماً، في كوموندو لا يحدث شيء.. إنها قرية سعيدة"، وفهم الجميع المطلوب.