تعرفونهم من أفراحهم

2022.09.23 | 06:06 دمشق

م
+A
حجم الخط
-A

إذا تابعت أخبار أفراح السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي سرعان ما تلاحظ الفروق الكبيرة في أسباب الفرح واختلاف موضوعاته. فبعضهم يفرح بتخرج ابنه من الجامعة، أو نجاحه في المدرسة، أو بمولود جديد أو زواج أحد الأبناء وما إلى ذلك. غير أن هناك موضوعا جديدا للفرح بدأ يزداد حضوره بين الموالين في الآونة الأخيرة؛ إنه فرح الآباء بتسلم أبنائهم لمناصب مديري مؤسسات أو رؤساء أقسام في دوائر الدولة. وغالبا ما تكون المباركة مفعمة بالفخر بالإنجاز الذي استغرق عشرات السنين من العمل والتضحية وسهر الليالي. وقد وصل الأمر أن المباركات أصبحت تتم أحيانا بالجملة، وهي ما قامت إحدى دكتورات جامعة دمشق (تتنقل بين مناصب قيادية منذ أكثر من عشريين عاما) عندما حصلت اثنتان من بناتها على مناصب رؤساء أقسام في كليات الطب والصيدلة في جامعة دمشق في اليوم نفسه.

منذ زمن ليس بعيد أصبح توزع المناصب الإدارية في سوريا يأخذ الطابع العائلي. وكما أن غالبية أبناء أصحاب المصانع يصبحون صناعيين، وأبناء أصحاب المهن يرثون مهن آبائهم، كذلك سن المسؤولون السوريون، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، سنة سورية تجعل المسؤول ملزماً بأن يؤمن مناصبَ مهمةً لأبنائه، كنوع من الواجب الأخلاقي، وهو واجب لا يختلف في إلزاميته عن الواجبات المعتادة للآباء في إطعام وتدريس وتربية أبنائهم. فالمسؤولية لم تعد تكليفا وليس تشريفا كما يقول قاموس حِكَم بشار الأسد وإنما أصحبت دكانا تجاريا يتنعم به أصحابه وأبناء أصحابه.   

يتناقل السوريون عدة نكت ساخرة حول ظاهرة تولي الأبناء مناصب مثل آبائهم. فقد تحول جواب السؤال الروتيني عما يرغب الأبناء أن يصبحوا في المستقبل من طبيب ومحامٍ ومهندس إلى مدير دائرة أو وزير في وزارة معينة أو رئيس لمؤسسة، عندما يوجه السؤال إلى أبناء المسؤولين. وهي نكتة تدل على إدراك عامة السوريين في بنية وعيهم التحتية لما يحصل منذ بداية الثمانينيات. وقد وصل الأمر حدا أنك تلاحظ وبسهولة انتشار أسماء عائلات بعينها في قطاع محدد: عائلة شدود في المناصب الحزبية البعثية، وعائلة شاليش في مجال الاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية، وعائلة مخلوف المتعددة المواهب الأمنية والاقتصادية، وعائلة بري المختصة بمجلس الشعب، وعائلة السيد المختصة بوزارة الأوقاف والقائمة تطول.   

طبعا أول من سن هذه السنة هو حافظ الأسد عندما عين أخاه رفعت الأسد في منصب نائب رئيس الجمهورية في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، ثم سعى إلى توريث الحكم إلى أكبر أبنائه إلى أن رسا منصب الرئيس على ابنه بشار، وهي قصة طويلة يعرف جميع السوريين تفاصيلها. ولكن وكون الناس على دين ملوكهم، فقد أخذ غالبية من يسير في ركب النظام الأسدي ويتنعم بريعه، بتقليد رئيسهم، حتى أصبحت ظاهرة العائلات المسؤولة أمرا طبيعيا، بل ومحمودا ودلالة من دلالات النجاح والتفوق والجديّة.

حتى أصبح للعائلات التي ينتشر فيها تسلم المناصب صفات نفسية وسياسية تميزهم عن غيرهم من باقي السوريين. فهي عائلات تتبنى السياسة بوصفها مهنة لا يعيش الإنسان من أجلها، بل يعتاش عليها. أو بلغة ماكس فيبر يتحولون إلى "محامين يتكسبوا من مصائب موكليهم". أما أهم صفة نفسية تستفحل لديهم فهي ما يسمى بعلم النفس السياسي "غريزة السلطة".

يذكر أن تحويل الوطن إلى مزرعة شخصية، ومجرد فضاء للحصول على ميزات للموالين، هو سلوك الخنازير التي ميزت نفسها عن الآخرين، في رواية جورج أورويل المشهورة "مزرعة الحيوان". إن تمييز المسؤولين، عبر منحهم حق تعيين أبنائهم في مناص مرموقة، هو في أساسه ظاهرة سياسية تنتشر في أشباه الدول التي تحاول أن تظهر بمظهر الحداثة، ولكنها تعتمد في حقيقتها على بنية عائلية/ عسكرية وبناء شبكة من الولاءات. حتى أن ماكس فيبر يؤكد أن "منح المناصب" وبيعها بغية جلب الموالين، وضمان طاعتهم، تعد أهم وسيلة على الإطلاق في استراتيجيات الدول الدكتاتورية، وهي البديل الحديث عن الغنائم التي كان يقدمها قطاع الطرق للمجرمين واللصوص التابعين لهم.

قصة شكوى فاطمة مخلوف خالة بشار الأسد وأم عاطف نجيب للرئيس عندما أقال ابنَها من منصب رئيس فرع الأمن السياسي بدرعا، وسرعة استجابته للشكوى وتعيينه ابن خالته في منصب جديد في سلك الأمن، قصة يعرفها الجميع. وهي تطبيق لمبدأ " المناصب مقابل الولاء"، وهو مبدأ يعرفه كل من يدور في فلك السلطة الأسدية. أما شعور غالبية المسؤولين السوريين أنه من حقهم ضمان مناصب مرموقة لأبنائهم فيعود إلى إدراكهم في داخل أنفسهم أنهم "يتعفنون دون أن يعرفوا كيف كان ذلك" على حد تعبير غابرييل غارسيا ماركيز، وأنهم طالما باعوا كرامتهم وشرفهم للسلطة الأسدية، ووقفوا معها ضد وطنهم وشعبهم، أفلا يستحقون ثمنا مناسبا يعوضهم عن شعور التمزق النفسي الذي يحاولون إخفاءه بعشرات الطرق، ليس أقلها الشعور بالفخر والاعتزاز بعمل يقوم أساسا على الرشوة والمحاباة والنفاق.