تضحيات المنشقين و"العدالة الانتقالية"

2021.03.06 | 07:14 دمشق

2021-02-24t103824z_1934937082_rc2yyl92ld9l_rtrmadp_3_syria-security-germany.jpg
+A
حجم الخط
-A

عدالة انتقالية، انتقائية، انتقامية مصطلحات دارت حولها حوارات ساخنة على كافة وسائل التواصل الاجتماعي بين من يُفترض أنهم في خندق واحد في مجابهة منظومة الإجرام الأسدية وصلت إلى حد التشكيك بنوايا القائمين على المراكز الحقوقية التي تتابع محاكمة العقيد أنور رسلان والمساعد إياد غريب المنشقين عن إدارة المخابرات العامة ( أمن الدولة)، وَكَيلِ وابل من الاتهامات الغاضبة بعد صدور أول حكم من محكمة كوبلنز الألمانية.

كان من الطبيعي أن يتفاقم هذا الغضب مع انتشار صور للناطق الرسمي باسم جيش الإسلام (مجدي نعمة) المعتقل في فرنسا منذ أكثر من عام وقد تعرض للتعذيب الجسدي على يد الشرطة الفرنسية، حتى ظننا للوهلة الأولى أنه في زنازين النظام، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك باعتبار هذه المحاكمة هي إحدى السهام التي انطلقت من جعبة الثورة المضادة.

قبل الحديث عن ردة فعل المنشقين، ضباط وضباط صف وأفراد وكيف استقبلوا قرار الحكم الصادر بحق المساعد المنشق إياد غريب، لا بد أولاً من توضيح مخاطر عملية الانشقاق بحد ذاتها، وما يرافقها من مخاطر جسيمة على المنشق وأفراد عائلته وجميع أقاربه.

المنشق الذي تجرأ على هذه المخاطرة ووضع نصب عينيه الموت أو الاعتقال والتنكيل بجميع أفراد أسرته، ويعلم تماماً أنه سيحكم عليه بالإعدام، وتُصادر جميع أملاكه، لم يخطر على باله أبداً أنه سيوضع في قفص الاتهام كما هو حال رسلان والغريب.

أضاع مستقبله ومستقبل أولاده وزهد في المنصب والجاه والبيوت والسيارات، وألقى برتبته العسكرية التي شقي طول عمره للوصول إليها، تاركاً خلفه شقاء عمره ومستقبل أولاده، مفضلاً الاصطفاف مع شعبه وأهله، وثورة لطالما حلم بقيامها للتخلص من نظام دكتاتوري، أكثر من عانوا من طائفيته هم الضباط الوطنيون الأحرار.

كلمة الانشقاق تتردد على الألسن دون معرفة مراحلها المحفوفة بالموت من كل جانب بالنسبة للمنشق، وزوجته وأولاده ذاهبين إلى المجهول، متنقلين من بلدة إلى بلدة، متخفين بمساعدة الأهالي الطيبين خشية أن يتعرف إليهم أحد..

ينام المنشق بعين مغمضة والأخرى مفتوحة خوفاً على عائلته وأطفاله، متنقلاً من بيت إلى آخر والأمن والجيش يمشطان المناطق بحثاً عن الناشطين والثوار والمنشقين، إلى حين تأمين وصولهم إلى حدود إحدى دول الجوار متخطين رحلة موت لا شبيه لها.

المؤلم أكثر هو حال المنسيين الذين لا يذكرهم أحد، ولا حتى المنظمات والجمعيات التي تطالب بالإفراج عن المعتقلين والمغيبين قسرياً، هم الضباط المعتقلون بتهم محاولة الانشقاق أو رفض الأوامر بإطلاق النار على المدنيين، والذين يزيد عددهم على ألفي ضابط، بالإضافة إلى آلاف من صف الضباط والمجندين، استشهد كثير منهم تحت التعذيب، وآخرون كثر تم إطلاق النار عليهم من الخلف لأنهم رفضوا أو ترددوا في إطلاق النار على أهلهم، ومعتقلات النظام مليئة بكثير من أهالي المنشقين، منهم على سبيل المثال لا الحصر أشقاء البطل الذي كان أول من سن سنة الانشقاق بين الضباط، المقدم حسين الهرموش، وما زالوا جميعاً مجهولي المصير، ومثلهم الآلاف.

مما لا يعرفه البعض أن كثيرا من المنشقين، ودون أن يعلم بهم أحد قدموا خدمات ومساعدات للثورة والثوار وهم على رأس عملهم أكبر بكثير من مرحلة ما بعد انشقاقهم، ولمن لا يعلم فإن فصائل الجيش الحر لولا التنسيق والتعاون مع الشرفاء من الضباط والعناصر داخل القطعات العسكرية لما استطاعت تحرير أي منها، فعملية الانشقاق هي سلوك وموقف سابق يبدأ عند صاحبه منذ أول صرخة حرية في درعا وينتهي بعملية الانشقاق، ومن غير المعقول أن تجد جلاداً أو ظالما ويستفيق فجأة وينشق.

ينام المنشق بعين مغمضة والأخرى مفتوحة خوفاً على عائلته وأطفاله، متنقلاً من بيت إلى آخر والأمن والجيش يمشطان المناطق بحثاً عن الناشطين والثوار والمنشقين

التساؤلات كثيرة عند المنشقين، فلماذا، مثلاً وبعد عشر سنوات ووجود آلاف الشبيحة والعناصر والقادة من تنظيم بي كي كي المصنف على لوائح الإرهاب في دول أوروبا، وبموجب الولاية القضائية العالمية التي تعتمدها العديد من هذه الدول في قوانينها الوطنية، مثل ألمانيا وهولندا والسويد وفرنسا، لم نسمع أنه تم فتح ملفات بحق هؤلاء، رغم تقديم  كثير من اللاجئين السوريين في هذه الدول والمنظمات الحقوقية السورية المعلومات والأدلة على تورطهم بارتكاب انتهاكات وجرائم مخالفة للقانون الدولي .

بالمقابل تحولت قضية إياد غريب وأنور رسلان إلى قضية رأي عام، وبعد صدور الحكم بحق إياد نظر المنشقون بعين الشك والريبة اتجاه هذا الحكم الذي رأوا فيه توجهاً انتقامياً في تطبيق العدالة، وينقل رسالة سلبية للمنشقين عن النظام بأنهم جميعاً قد يتعرضون لمثل ما تعرض له إياد، ما زاد من شكوكهم ومخاوفهم من تسييس مسارات العدالة لتكون ذريعة لتعرضهم في المستقبل للمساءلة والمحاسبة بسبب وقوفهم إلى جانب الثورة.

نقول هذا الكلام ونحن نعلم أن هناك آراء لمنظمات حقوقية ناشطة في هذا المجال تحاول ترويج الحكم الصادر بحق إياد على أنه انتصار لمنطق العدالة، مع العلم أن الحقائق تقول خلاف ذلك، فما زالت غالبية ضحايا النظام السوري، وهم بالملايين يرون أن المتسبب الرئيسي في مأساتهم ما زال حراً طليقاً ومستمراً بارتكاب جرائمه، محمياً من أن تطوله المحاسبة، وبالتالي فالحكم الذي صدر على إياد غريب إذا لم تتبعه محاكمات بحق الشبيحة ومجرمي النظام فسيزيد من علامات الاستفهام حول مغزى ودلالات هذه القضية.

أيضاً، وعلى عكس ما يروج، فإن الخطوات التي تتم ليس لها علاقة بمفهوم العدالة الانتقالية، فهذا مسار يحتاج الى تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بهيئة الحكم الانتقالي بعد التوافق على تشكيل هيئة تنفيذية كاملة الصلاحيات يكون أحد اختصاصاتها تطبيق مسار العدالة الانتقالية، وبما أن أفق الحل السياسي ما زال مسدوداً فهذا يعني أننا لا يمكن أن نرفع سقف التوقعات بأن يكون تطبيق الدول الأوربية لنظام الولاية القضائية الدولية هو ما سيؤدي الى تحقيق العدالة في سوريا، فقد تعلمنا من تجاربنا المريرة أن لغة المصالح السياسية ما زالت تعلو على قيم العدالة، وكبار القضاة والفقهاء في مجال القانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في دول متحضرة مثل أميركا وأوربا، لا ينكرون وجود تأثير كبير للمصالح السياسية للدول على مسارات العدالة.

أيضاً كثيرون يرون أنه بعد انسداد أفق الحل السياسي وتعنت النظام، لم يبق أمام الدول التي وقفت موقف المتفرج على أكبر الجرائم في التاريخ ترتكب بحق شعب طالب بالحرية والديمقراطية، لم يبق أمامها لحفظ ماء وجهها سوى تسييس بعض القضايا الصغيرة وإيهام الناس أنه من خلال ملف المحاكمات الانتقائية سيسقط الأسد. 

لذلك فإن من المهم التذكير أن العدالة التي يسعى إليها السوريون هي التي تتحقق ضمن إطار مسار وطني شامل ومحاكمة كل من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية عبر محاكم وطنية وفقا لمعايير دولية، علماً أنني شخصياً وكثيرين من زملائي المنشقين لسنا ضد تطبيق العدالة مستقبلاً، ولكن أن تكون بمعايير واحدة وبوقت وظروف ومكان واحد، وتشمل كل من كان موجوداً منذ بداية الثورة في مؤسسات الدولة السورية، لا أن تكون عدالة منقوصة وانتقائية تخضع لأهواء وسياسات كل دولة وكل جهة، فالعدالة والحقوق لا تتجزأ، والثورة التي قامت ضد الظلم والاستبداد لا تحتمل نظرة معيارية للعدالة.