14 عامًا مضت، مليئة بالتهجير والنزوح والتدمير والجرائم البشعة، وحرب الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام الأسد الدموي المجرم، بواسطة جيشه وقواته الأمنية وداعميه الإقليميين والدوليين، وعشرات الميليشيات الطائفية العابرة للحدود بحق الشعب السوري. الشعب الذي اضطر أبناؤه بعد أشهر من بدايات الثورة وعلى كامل الجغرافيا السورية إلى ترتيب صفوفهم وتنظيم أنفسهم بسرعة، والاتجاه مرغمين للعمل المسلح، حيث قاموا بتشكيل مجموعات وفصائل مناطقية كثيرة بأسماء وروايات مختلفة حملت السلاح ردًا على سياسات القمع والإجرام والإرهاب غير المسبوق الذي واجهوه بالمظاهرات السلمية التي كانت شعاراتها تدعو إلى تغيير سلوك النظام المخابراتي القمعي، والقيام ببعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمعيشية. ولكن تعنت النظام، ودموية جيشه وقوات أمنه، ما لبثت أن طورت أهداف الثورة إلى المناداة بشعارات إسقاط حكم آل الأسد بكافة رموزه وأركانه.
الفصائلية وتأخر إسقاط النظام
لا شك أن طول فترة الثورة والمعاناة الكبيرة المؤلمة وعظم التضحيات التي قدمها الشعب السوري، وبقاء الأسد ونظامه في الحكم القمعي طيلة هذه المدة حتى سقوطه في 8 كانون الأول 2024، كان له العديد من الأسباب التي لا مجال لذكرها كلها الآن. ولكن يأتي على رأس هذه الأسباب التدخل والدعم الروسي والإيراني السياسي والعسكري والمادي الذي تلقاه الأسد منهم طيلة 14 عامًا. أما السبب الأهم والمتصل بالثورة نفسها فأتصور أنه كان مرتبطًا بالفصائل المناطقية الكثيرة التي تشكلت في حينها، وأصبحت بشكل أو بآخر بإرادتها أو بدونها مرتهنة للدول الداعمة والممولة. وهذا بكل تأكيد ما جعل بنادق الثوار والفصائل المسلحة مشتتة ومرهونة لمن يدعمها ويقدم لها السلاح والمال. وعليه، فقد أصبح دعم غالبية الدول العربية والإقليمية للثورة مرتبطًا بما تتطلبه مصالح هذه الدول، بل وحتى حسب ما تتطلبه مصالح واستراتيجيات واشنطن والدول الغربية الكبرى التي تخدم في غالبها مصالح إسرائيل في المنطقة، دون أي حسابات أو مراعاة لمصالح الشعب السوري ومعاناته وتضحياته.
في الواقع، لقد شكل الدعم الإقليمي المشروط للفصائل طيلة أعوام الثورة بقاء هذه الفصائل متفرقة ولا يجمعها أي جسم عسكري مؤسساتي حقيقي واحد طيلة 14 عامًا. بل ووصل الأمر إلى حدوث اقتتالات كثيرة فيما بينها لأسباب في غالبها مستندة إلى مصالح ومكاسب ضيقة وحتى حسب الإرادات والتوجيهات الخارجية. وهذا ما تسبب في ابتلاع فصائل لأخرى، وشيطنة فصائل ثانية ذات التوجهات الإسلامية ووصفها بالإرهاب، خاصة بعد تصنيف بعض الدول العربية لجماعة الإخوان المسلمين على أنها منظمة إرهابية. وهذا جعل كل من يدور في فلك الجماعات الإسلامية من قريب أو بعيد يُنعت ويوصف غالبًا بالإرهاب. وبهذا تشتت مسار الثورة حينها وأصبح توجه الدول لحربهم على الإرهاب هو الطاغي والمسيطر.
التحديات ما بعد سقوط الأسد وانحلال عقد جيشه الفاسد
بعد تضحيات عظيمة قدمها الشعب السوري وثواره، وبفضل وعون وتوفيق من الله، فقد سقط أخيرًا نظام الأسد البائد، وتهاوى جيشه الطائفي المجرم، وانحل عقد فروع أمنه الإرهابية، ودانت السيطرة المتقطعة لإدارة العمليات على حكم البلاد. وذلك بسبب استمرارية سيطرة ميليشيات قسد الإرهابية وبدعم أمريكي على أجزاء هامة وغنية بخيراتها من الجغرافيا السورية، ناهيك عن التحديات والإرث الضخم من الويلات، والصعوبات الاقتصادية والخدمية والمعيشية والأمنية الذي تركها الأسد وكبار مجرميه وراءهم.
لا شك أن الإدارة الجديدة برئاسة السيد أحمد الشرع ومنذ الأيام الأولى للسيطرة على البلاد، فإنها قد وضعت الملف الأمني على رأس الأولويات والاستحقاقات الكثيرة المطلوبة منها، بل والمصدر الأول للهم والاهتمام، وخاصة بعد تصريح الشرع بأن "منطق الدولة يختلف اختلافًا جذريًا عن منطق الثورة". وأنا هنا لا بد أن أؤكد أيضًا على أن منطق الفصائلية المقيتة التي دامت كل هذه الأعوام أيضًا يجب أن ينتهي إلى غير رجعة أمام عظم مؤسسة الجيش الوطني المزمع تأسيسه، بقواه البرية والبحرية والجوية وصنوف القوات، والإدارات والهيئات والفروع الاختصاصية. وبالتالي يجب أن يكون هناك اندماجًا حقيقيًا كاملاً لا شكليًا ولا صوريًا لهذه الفصائل في مؤسسة الجيش القادم، دون أي تردد أو تذمر من أحد، وأن ذلك سيحصل سلمًا أو بالقوة. إذ أنه من غير المقبول أن يكون هناك سلاح منفلت خارج عن سيطرة الدولة الشرعية، أو وجود أي أجسام وتكتلات على أساس إثني أو طائفي أو أيديولوجي في مؤسسة الجيش القادم. وإلا فإن هذا الجيش سيكون مجرد ميليشيات فوضوية متصارعة، غير منسجمة وستتبع بأحسن الأحوال لأمير الحرب هذا أو ذاك.
في الواقع، فإن مسألة تشكيل الجيش الوطني والاستقرار الأمني لسوريا هي من أهم الاستحقاقات والأولويات التي تهتم بها حكومة دمشق الآن. ولكن عملية تشكيل "الجيش السوري الجديد" وتسليحه حقيقة لا يبدو أنها ستكون مهمة سهلة أو سلسة للقيادة في دمشق، وذلك لوجود عوائق وتحديات ليست بالسهلة وستقف في وجه هذا الاستحقاق الهام، والتي من أهمها:
-
طبيعة وخلفيات التشكيلات وتبعيات قادتها التي من المفترض أن تقبل حل نفسها في الأيام المقبلة، وتندمج طوعيًا وبشكل حقيقي ضمن جسم عسكري مؤسساتي واحد، يتبع لوزارة الدفاع صاحبة القرار المركزي الوحيد. وعدم إبداء أي ممانعة أو تنافسات على المناصب والكراسي.
-
مشكلة تسليح الجيش وتدريبه، خاصة بعد أن دمرت إسرائيل بغاراتها الجوية الكثيفة منذ اليوم الأول لسقوط الأسد أكثر من 85٪ من القدرات التسليحية البرية والبحرية والجوية للجيش المستقبلي. بل وسيطرت على أكثر من 400 كم من الأراضي السورية في محيط منطقة اتفاقية فض الاشتباك الموقعة في عام 1974، والتي اعتبرها نتنياهو لاغية وضرب بها عرض الحائط. ثم إن تسليح الجيش هل سيكون شرقيًا أم أمريكيًا أو أوروبيًا وتركيًا؟ وهل ستسمح إسرائيل بتسليح الجيش الجديد بأسلحة استراتيجية هجومية ودفاعية، أم ستبقى قدرات وتسليح هذا الجيش بجميع قواه وصنوفه لا تتعدى بأن يكون فقط قادرًا على حراسة وتأمين الحدود وحفظ الأمن الداخلي للبلاد؟
-
فصائل الجنوب والتخوفات المشروعة لإدارة العمليات بشأن الفيلق الخامس، واللواء الثامن الذي كان جزءًا من فصائل التسويات وتبعيتهم السابقة والمشبوهة للروس. ولاسيما أن قائدهم أحمد عودة في مواقفه اللاوطنية يضع حتى الآن العصي في الدواليب، ويطالب ببقاء آلاف من مسلحيه ككتلة واحدة في الجيش القادم وأن يكون لهم خصوصية مناطقية دونًا عن جميع الفصائل.
-
المعضلة الأكبر هي السلاح المنفلت، ومشكلة تسليم قسد لسلاحها، وحل ميليشياتها أو دمج أعداد متفق عليها في الجيش الجديد، وتحديد مصير سيطرتها على أجزاء واسعة من البلاد الغنية بخيراتها النفطية والزراعية والمائية. وخاصة أن قيادات قسد ترفع سقف مطالبها بأن تبقى ميليشياتها ككتلة واحدة في الجيش القادم، وتكلف بأمن مناطق سيطرتها، وهذا ما لا يقبله أي سوري وطني.
ختامًا
لا شك بأن بناء مستقبل مستقر وهادف لفترة ما بعد سقوط نظام الأسد المجرم يتطلب من أصحاب القرار والمختصين في مؤسسة الجيش والأمن البدء فورًا باتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة حقيقية وجذرية لتحديات الواقع العسكري والأمني الحالي. وهذا لا يكون وفق أسسه السليمة إلا بوجود أهداف وتصورات ورؤية استراتيجية شاملة وكاملة تُتجاوز فيها الحلول المرحلية المؤقتة والترقيعية، والاتجاه نحو بناء مؤسسات قوية ومستدامة. وأن يتم تشكيل وتنظيم وبناء الجيش الوطني ليكون بلا أدنى شك مؤسسة انضباطية احترافية جامعة لجميع السوريين بكل أطيافهم الإثنية والعرقية والطائفية، دون أن يغفل عن هيكلة وتنظيم وبناء المؤسسات الأمنية بجميع مسمياتها لتكون أدوات حامية للشعب لا مرهبة له. وبالتأكيد فإن إنجاز هذين الهدفين سيشكلان الأساس المتين لبناء دولة سورية قوية وذات سيادة.