تروتسكي وبوتين

2022.04.08 | 06:33 دمشق

tumblr_n0kybkn0qk1qap9gno1_1280.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد وفاته بشج في الرأس ناتج عن ضربات متتالية من قاتله رامون ميركاديد، طلبت زوجة ليون تروتسكي من حكومة الولايات المتحدة الأميركية أن يتم دفن جثة زوجها في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن وزارة الخارجية الأميركية كانت قد أصدرت بياناً بمنع دخول تروتسكي إلى أراضيها حياً أو ميتاً، هكذا وببساطة تتضح للناس خطورة رجل بحجم وأهمية ليون تروتكسي، الذي طاردته حكومة موسكو طوال عشرين عاماً حتى اقتنصته في عملية اغتيال مرعبة في المكسيك، بأمر مباشر من ستالين، وطاردته كذلك حكومة الولايات المتحدة الأميركية خوفاً من تأثيره وأفكاره وقدرته الإشعاعية في نشر الفكر الأممي الحقيقي.

أوليس غريباً أن يتفق الخصمان الأشد تطرفاً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية على معاقبة تروتسكي، قطبا الحرب الباردة، اليسار واليمين في العالم، السوفييت من جهة، ونموذج الرأسمالية من جهة أخرى، على نبذ وإحلال دم هذا الرجل.

ربما من البدهي أن نتعرف إلى موقف أميركا منه، ربما بسبب ذعر حكام واشنطن من أي مفكر ماركسي حقيقي، بعد أن بدأت حملاتهم المكثفة التطهيرية في مواجهة الشيوعيين والماركسيين حتى باتت تهمة الشيوعي، في أميركا مرادفة لكلمة الخائن، بعد انتهاكات لجنة ماكارثي الشهيرة، وتقويضها كل قيم الحقوق المدنية..في مطاردة الشيوعيين واليساريين وأنصارهم..وزجهم في السجون.

ولكن من المستغرب كيف يمكن لرجل يقود الاتحاد السوفييتي أن يشن حملة دولية ويجند مئات العملاء من حول العالم للاقتصاص من رجل ومفكر وشريك في ثورة أكتوبر وفبراير 1917، كاتب ومُنظّر، رفيق لينين وأحد مؤسسي الاتحاد السوفييتي، وأحد قادة الحرب الأهلية الروسية، ومؤسس الجيش الأحمر، كانت هذه ألقاب تروتسكي المخيف، الذي كان ذكر اسمه فقط مثيراً للرعب في قلوب الناس، وأولهم ستالين الذي كان يدرك في قيعان بئر أفكاره، حجم تفاهة الطاغية وحجم جُبن الدكتاتور في مواجهة المثقف الثوري، أو المفكر الإنساني.. ستالين ببساطة كان دكتاتوراً مثالياً، رجلاً عسكرياً لا يفقه من الجدل إلا منطق القوة، أعدم في سني حكمه ما ينوف على مليون إنسان سوفييتي، وقضى على الملايين الآخرين عبر تنقلاته الديموغرافية الهائلة التي أجراها، وتلقاها من بعده بقية دكتاتوري العالم.

 بعد وفاة لينين، انقض ستالين على السلطة، مدركاً بأن استئثاره بالحكم لن يكتمل إلا بتصفية بقية الفريق الثوري المشارك في الثورة والحرب، فبدأ سلسلة التطهير الثوري فأعدم مفكري الحزب الشيوعي كلهم، رفاق لينين، ورفاقه، أعدم أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي بالكامل، ونحن حينما نتحدث عن أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي فنحن لا نتحدث عن رجال جبناء بيروقراطيين، يصفقون للزعيم حينما يلقي بنكاته الثقيلة، ولكننا نتحدث عن قائمة من ألمع الثوريين الحقيقيين حينذاك، وفق وجهات نظرهم طبعاً، وإيمانهم بما يفعلون، فمن سبعة أسماء عظيمة من المكتب السياسي الأول من رفاق لينين، الذين شكلوا المكتب الذي أسسه هو بنفسه، نتعرف إلى "كامينييف، زينوفييف، ستالين، بوبنوف، سوكولنيكوف، وتروتسكي، ولينين" هؤلاء السبعة تقاطعت مصائرهم جميعاً، بعيد وفاة مؤسس الاتحاد السوفييتي، لينين، والذي كان يمتلك احتراماً كبيراً بين الثوريين أنفسهم، اندلع الصراع جلياً بينهم على السلطة، بعد أن احتكرها ستالين، وأعلن سيطرته الكاملة وانقلابه على الفكر الثوري الذي نظّر له لينين، وطوال عشر سنوات من المؤامرات والنزاعات التي انتهت بإعلان ستالين "التطهير العظيم"، الذي كانت نتيجته إعدام أعضاء المكتب السياسي الأول كلهم، ما عدا تروتسكي الذي كان ستالين يخشاه فسمح بتكسيره ببطء، عبر طرده من البلاد، ومن ثم من الحزب، وبعدها عبر نزع الجنسية عنه، ومن ثم مطاردة عائلته بالكامل واغتيالهم بالكامل: جميع أولاده وبناته و زوجته الأولى والثانية وأمه، عبر قانون "محاسبة عائلات خونة الوطن" ، الذي يشبه قوانين إسرائيل الحالية في محاسبة عائلات معارضيها وهدم بيوتهم..وتشهد "ساحات كومانوركا للرماية "إحصاء أكثر من عشرة آلاف رجل وامرأة أعدموا بين الأشجار هناك، قبل أن يصبح ميدان الرماية هذا مزاراً لضحايا ستالين.

خطيئة تروتسكي كانت أنه لم يقتنع ويقبل بحصول البلاشفة على الاتحاد السوفييتي، ولم يرضخ لفكرة القبول بتقسيم العالم إلى فسطاطين، شيوعي ورأسمالي، بل أراد إعلان الأممية الرابعة التي تدعو إلى تأجيج الثورة ورفع مشعل الغضب في باقي أنحاء العالم، لأن الفرصة حينذاك كانت ملائمة للثورة المستمرة، ولكن ستالين ولسبب ما قبل بحدود نجاح ثورتهم، وقبل أن يكون حاكماً على أراضي الاتحاد السوفييتي فقط، ومن هنا كانت نقطة التقاطع بين غضب ستالين على ليون تروتسكي وبين غضب الغرب الديمقراطي عليه، فالأخير لم يكن يرغب بشخصية تؤجج العمل الثوري أبداً في عالمهم، بل كان الغرب مهتماً بحصر الشيوعية في أراض  ثابتة كي تبدأ بأكل نفسها عبر القمع والترهيب الذي مارسه ستالين.

في عام 1937 أصدر تروتسكي كتيبه الثوري المعنون" جرائم ستالين" الذي أدرج فيه تحليلاً ماركسياً لأخطاء وعثرات ستالين، وبيّن فيه كيف أن سياسات ستالين سوف تقوض المشروع السوفييتي بالكامل، كان تروتسكي مستبصراً، يعرف أن سجن الثورة في زجاجة سيؤدي في النهاية إلى تفجير الزجاجة نفسها، لذلك كان يرغب في نشر الثورة وجعلها تتنفس في عموم العالم، دون مواجهة أو احساس بالخطر من قبل فريق خصم، فحينما كان تروتسكي يرى ستالين عبارة عن ثوري جاهل وعنيف، كان ستالين يعتبره مثقف مترف من بقايا البرجوازية.. يهودي، خائن، عميل للغرب.

في زمننا الحالي لم يعط تروتسكي حقه الفكري، ولم يرد له أي أحد اعتباره الثوري في روسيا، بل شنت وسائل الإعلام الروسية في عهد بوتين حملات ضده بوصفه خائناً مشبوهاً.

بوتين وهو يتشبه بستالين هذا، لا يتمثله فقط من منطلق ذكاء الأخير وخبرته السياسية، فلقد كان ستالين وبشهادة رفقائه البلاشفة غير خبير بالسياسة ومفاتيحها، وإنما كان يمتلك فقط ناصية العنف، والتخويف وقدرة رهيبة على استشعار معارضيه وضربهم قبل أن تنمو أظافرهم

وهذا بالتحديد ما أعجب بوتين بشخصية جوزيف ستالين، سياسة فرض الأمر الواقع على الآخرين، والعداء مع الغرب من أجل اكتساب مشروعية نضالية شعبوية، تستمد جزءاً من مشروعها باستبدال القيم الاشتراكية بالقيم الدينية الأرثوذكسية، مع الإبقاء على حالة الخواء السياسي الداخلي الروسي، واحتجاز أراضي دول الجوار على أساس نية الأمن القومي، دون إنجاز أي تنمية أو رخاء اقتصادي، تماماً كما يفعل بوتين في دول مثل سوريا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية والشيشان، وإيران، وكما يتخيل مستقبل أوكراينا.. جيوش تتحكم بالدول، أجهزة استخبارات عنيفة، وقمع للمعارضين ليس فقط في البلاد، وإنما السعي إلى مطاردتهم حول العالم، عبر السم القاتل، أو كاتم الصوت..

تروتسكي لو كان حياً اليوم فسيكون حكماً على الضفة الأخرى من بوتين، الذي كان ينتوي أن يسقط حكومة كييف في أسبوع على الأكثر وأن يسوق القيادة الأوكرانية الحاكمة حالياً إلى محاكمات شبيهة بمحاكمات موسكو التي عقدت من قبل ستالين في  نهايات سنة 1936 ضد التروتسكيين، وتروتسكي شخصياً ..حيث ظهرت في الإعلام السوفييتي عبارات خائن، وعميل، ومعادي للماركسية والثورة ..وهي تشبه التهم التي يسوقها الإعلام الروسي وحلفاؤه ضد زيلينسكي (اليهودي المولد).

وفي سياق هذه المحاكمات الصورية لم تكن النتائج غير متوقعة فقد حكمت المحكمة على تروتسكي والمئات من أنصاره بالإعدام بتهمة الخيانة، هذه هي الصورة التي يحاول بوتين أن يعيدها إلى أذهان شعبه اليوم، فإن نجح بوتين في إسقاط كييف، فلن ينتهي الأمر عند زيلينسكي وحكومته الذين وصفهم بوتين شخصياً بأنهم (مدمنون ونازيون وشواذ) ..بل سيستمر الأمر لحملة تطهير كاملة ستلتهم كل من لم يتفق مع بوتين في سياساته الغريبة، من مديرين، ومخابرات، ووزراء، وأوليغارشيين..

بعد محاكمة موسكو، عقدت لجنة رسمية في الولايات المتحدة، تحت اسم لجنة ديوي، وهو اسم رئيس اللجنة التي ضمت عدداً من الحقوقيين، والفلاسفة، والمنظرين، منهم الروائي جون دوس باسوس، وجون ديوي، والفنان جون تشامبرلين، للنظر في التهم المنسوبة إلى تروتسكي، قابلت اللجنة تروتسكي في بيته في المكسيك، فيما تحولت شهادته أمام لجنة ديوي إلى الكتاب الذي أسلفنا ذكره قبل قليل بعنوان (جرائم ستالين) الذي طبع في فرنسا عام 1937، وانتشر الكتاب انتشار النار في الهشيم، فلم يكن من اللجنة إلا أن برأت تروتسكي من التهم الدعائية التي نسبتها له محاكمات موسكو..على الرغم من منعه من دخول الولايات المتحدة الأميركية..

في عام 1945 وتزامناً مع عقد محاكمات نورمبرج الشهيرة ضد النازيين، وقع العديد من الكتاب والفلاسفة والمنظرين الغربيين، كتاباً يطالبون فيه بالتحقيق المباشر مع روبرت هيس، مساعد أدولف هتلر، وفتح أرشيف الغوستابو الخاص بتروتسكي، للكشف على مزاعم ستالين التي ساقها ضد الرجل وفريقه السياسي حينذاك، حول تعاونه واتصاله المباشر مع هيس من أجل اقناع ألمانيا باجتياح الاتحاد السوفييتي، ومن ضمن من وقع على العريضة الشهيرة كان الروائي جورج أورويل، والروائي الهنغاري أرثر كويستلر، والاشتراكي الإنكليزي الشهير جورج هورابين..ولكن شيئاً من هذا لم يحصل.

حيث بقي تروتسكي عدواً للطرفين حتى اليوم، لم يحاول أحد أن ينظف سمعته التي لطخها الطاغية ستالين، وبقيت محاكمات موسكو الشهيرة، واحدة من أكثر المحاكمات تشهيراً وعبثية في العالم بموازاة محاكمات نورمبرغ.

بوتين اليوم  يريد بالضبط أن يحدث هذا الزلزال، بمزاعمه الكثيرة حول النازيين الجدد، والجدل المستعر بين الأطراف، فهل سيحقق الغرب في مزاعم انتشار النازية في أوكرانيا، كما يدعي بوتين وفريقه ومن لف لفهم..تبقى الحقيقة غائبة دوماً. فيما تستمر عملية شيطنة الرئيس الأوكراني الذي يناصب بوتين العداء الشخصي، والذي بات بشخصه ونموذجه يشكل تهديداً وجودياً للنظام الروسي البوتيني، حاولت مرتزقة الشيشان اغتيال زيلينسكي مرة، وفشلت، ولربما سيظل بوتين ساعياً لاعتقاله أو تصفيته أينما ارتحل، إن سقطت كييف أو صمدت.