تروتسكي في بيانه الفني

2022.07.04 | 04:45 دمشق

تروتسكي في بيانه الفني
+A
حجم الخط
-A

كانت نظرة تروتسكي للعالم، حالمة بعض الشيء، على الرغم من الدماء الكثيرة التي سفكت بسبب آرائه المتطرفة، وتطبيقه العنيف لمفهوم الثورة والنضال الثوري، والتغيير.. ولكنها تبدو اليوم وبعد عقود على اغتياله طفولية قليلاً، أو لربما رومانسية نسبة لزمانه والأحلام الكبيرة التي يمكن للإنسان أن يعيشها في عشرينات القرن الماضي الأولى.. حيث كان العالم متاحاً ومفتوحاً على كل الاحتمالات، بما فيها نظرة تروتسكي العميقة حول فكرة تغيير العالم والقدرة على إعادة تشكيله حسب صورة جديدة تنتمي إلى زمن أقل ظلماً وأكثر عدالة (من وجهة نظره).. وبعيداً عن مشروعه الثوري السياسي العسكري الذي تشاركه مع رفيق دربه فلاديمير إيليش أوليانوف (لينين) فإن للرجل جوانب أخرى لا تقل أهمية عن نضاله السابق والذي اشتهر فيه، ودفع حياته ثمناً له، بعد صراع مرير مع الخصم الإيديولوجي جوزف ستالين..

تروتسكي لمن لا يعرفه جيداً، هو أيضاً قارئ نهم ومتابع رائع للفنون، يمتلك نظرية متكاملة حول الفن والأدب، ويعي جيداً دورهما المحوري في حياة الشعوب وقدرتهما الفائقة على شحذ همة الإنسان أو تثبيطها..

لقد تحول الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي إلى بطل إعلان همبورغر أميركي غداة الانفتاح الاقتصادي على الغرب، وتحول قبر لينين وستالين إلى مزارات سياحية

حذر تروتسكي طويلاً من فشل الأممية الثالثة، وكيف أن ممارساتها تلك سوف تجعل الرأسمالية تلتهمها لاحقاً، وتعيد إنتاجها تجارياً كأي منتج استهلاكي، غرائبي، مثير للفضول، ليس إلا.. ولربما هذا ما حدث بالتحديد حينما سقط الاتحاد السوفييتي وتحولت رموزه البيروقراطية والثورية إلى شعارات يحج إليها السياح الفضوليون ويلتقطون إلى جانبها صوراً ويشترون تذكارات سياحية يحكون فيها عن زياراتهم تلك، وهذا بالضبط ما حذر منه تروتسكي، فلقد تحول الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي إلى بطل إعلان همبورغر أميركي غداة الانفتاح الاقتصادي على الغرب، وتحول قبر لينين وستالين إلى مزارات سياحية، حتى أيقونة تشيه غيفارا أصبحت من أكثر الصور رواجاً وبيعاً حول العالم، محققة أعلى إيرادات لصور تباع ويعاد طبعها في التاريخ.. وهي الصورة الأيقونية التي رفعت في كوبا وأميركا اللاتينية لتبيان أهمية المناضل الخالد غيفارا، هافانا نفسها أضحت محجاً للسياح ممن يرغبون في أن يعيشوا في مدينة مختلفة عن باقي دول العالم، بصورتها الاشتراكية والشيوعية التي يصفونها بالخارجة عن التاريخ، رغم أهمية وعظمة التجربة والثورة الكوبية في وقتها وكذلك الثورة البلشفية، وكل رموز الشيوعية، إلا أنها اصطدمت فعلياً بجدار ثابت جعلها تلتف على نفسها خوفاً من التلاقح مع العالم المعاصر، أي فكرة في العالم ستنتهي حينما تتوقف عن التطور، وتثبت في مكانها خوفاً من الآخر ورغبة في حماية نفسها..

الرأسمالية مثل وحش يغير وجهه كلما أحس بدنو أجله، هكذا تحدث تروتسكي، وسعى لتشكيل الأممية الرابعة التي تدعو إلى ثورة مستمرة لا منتهية، بغية تشكيل عالم جديد، في حين استطاع ستالين السيطرة بقوة الدم على السلطة، وقام بإعدام رفقائه جميعاً، ونفي من تبقى ثم العودة عن قرار نفيهم، بالتحريض العالمي على إعدامهم، لكن ذلك لم يمنع العديد من مثقفي العالم من النظر إلى الحقبة الستالينية على أنها جوهر الأمل البشري، كما صرح أراجون الشاعر الفرنسي الشهير، أو كما عبر أندريه مارلو صراحة عن دعمه اللامتناهي لستالين في الحلوة والمرة، استطاع ستالين السيطرة على عقول عدد هائل من المثقفين حول العالم، عبر دعمه اللامحدود للأحزاب الشيوعية في أرجاء المعمورة، وما تتضمنه هيكلية تلك الأحزاب من مثقفين وأنصار، وعمال وبروليتارية ترغب في النهوض الاجتماعي، أدرك تروتسكي أن معركته مع ستالين لا تتعلق فقط بالشأن السياسي أو العسكري، فسعى لتأسيس منظومة ثقافية ثورية عالمية، برفقة منظر السريالية الثوري الفوضوي وصاحب البيان السوريالي (أندريه بروتون) والفنان المكسيكي الثوري (دييغو ريفييرا)..

أكد على أن الفن هو مرآة حقيقية للثورة، ولا مكان ناجح لأي ثورة في العالم، دون منعكسات فنية تعبر عنها، وعن آمال شعبها

في العام 1938، أطلق تروتسكي الأممية الرابعة، نظريته الشهيرة الداعية إلى الثورة المستمرة، وفي السنة ذاتها أطلق برفقة الفنانين السابقين، منظمة فياري Fiari أو الاتحاد الدولي للفنانين الثوريين، وأطلق البيان (نحو فن ثوري)، الذي كتبه بنفسه، ماحياً اسمه عنه، ليفسح المجال لعدم تسييس البيان والانقضاض عليه من قبل الستالينيين، في جوهر البيان الذي أسس له تروتسكي في كتابه (الأدب والثورة) الصادر عام 1924، شدد كاتبه على أهمية وقداسة الحرية الفردية، في مواجهة الطغيان الشمولي الستاليني، وعبودية الرأسمالية، اللذين يسيران جنباً إلى جنب، حتى يقضيان على الإنسان المعاصر، أكد على أن الفن هو مرآة حقيقية للثورة، ولا مكان ناجح لأي ثورة في العالم، دون منعكسات فنية تعبر عنها، وعن آمال شعبها، وإن أردت خنق ثورة ما فعليك بقتل فنانيها، أو رقابتهم، أو مصادرة فكرهم، الثورة فعل يقوم به السياسيون الثوريون ويحمله الشعب عالياً، مرددين أغاني فنانيه وأفكارهم، التي تشغل بالهم، فإن كان على العامل أو الفلاح أو التاجر أو الطالب ألا يجد أغاني تعبر عنه وعن ثورته فقد سقطت الثورة، أي ثورة..

لخص تروتسكي تلك الأفكار في بيانه الفني الثوري، بجملتين ذهبيتين..

استقلال الفن، لأجل الثورة.

والثورة، لأجل تحرير كامل للفن.