لاشك أن الثورة السورية ضد نظام الأسد الديكتاتوري قد شهدت خلال سنوات عمرها الثلاثة عشرة الماضية العديد من المفترقات والعقبات والتدخلات والتداخلات الإقليمية والدولية المباشرة وغير المباشرة، والتي حقيقة عَقَدتْ وزادت من صعوبات وصول هذه الثورة لمبتغاها وتحقيق أهدافها وغاياتها، بل إن هذه الأسباب كلها مجتمعة قد زادت من معاناة الشعب السوري الذي أُثْقِلَ كاهله بآلام النزوح واللجوء، والتشرد في غالبية دول العالم، وعليه فإن من أهم الصعوبات والتحديات التي مرت على القضية السورية وأخطرها على الإطلاق هو ظهور الرايات السوداء والمجموعات الجهادية العابرة للحدود، وولادة تنظيم داعش، وما تمخض عنه من تدخلات وتحالفات دولية لأكثر من 86 دولة بقيادة واشنطن لمحاربة هذا التنظيم، والقضاء عليه وإنهاء وجوده، ناهيك عن أن فرصة محاربة تنظيم داعش والإرهاب استُغلتْ كثيرا من قبل أطراف عديدة (حزب الله، عشرات الميليشيات الإيرانية والعراقية الطائفية، القوات الروسية) فاتخذوها ذريعة وهدفا مفضوحا للوقوف بكل إمكانياتهم العسكرية الإجرامية إلى جانب نظام الأسد والهدف المعلن هو إخماد جذوة الثورة السورية والعمل على إنهائها ووأدها.
تنظيم داعش والتدخل الأميركي
عمليا وبالعودة إلى الخلف قليلا فقد أقدمت الولايات المتحدة الأميركية منذ بدايات وجودها على نشر أكثر من 2000 جندي في سوريا، وبدأت مع الدول المتحالفة معها بتوجيه أولى ضرباتها على الجغرافيا السورية في 23 أيلول 2014، لتكون هذه الغارات التي استهدفت مواقع لتنظيم الدولة هي أول خطوة ميدانية لها وللتحالف الدولي.
لاحقا وفي شهر تشرين الأول 2015 قامت واشنطن بتشكيل ميليشيات سوريا الديمقراطية (قسد) التي ضمت بين جنباتها في ذلك الحين أكثر من 35 ألف مقاتل من المكون الكردي، وخمسة آلاف مقاتل عربي لتكون ذراعها الوظيفية على الأرض بعد تقويتها وتقديم المساعدات الضخمة وإمدادها بالسلاح والعتاد والدعم الجوي واللوجستي والمالي أيضا.
وعليه ومنذ ذلك الحين، وبمرافقة لصيقة من القوات الأميركية الخاصة وتحت قيادة القيادة الأميركية الوسطى، وبالدعم الجوي والمدفعي الكثيف المقدم، وإحالة مناطق ومدن شرقي الفرات إلى أرض محروقة، وارتكاب عشرات المجازر فقد تمكن التحالف وما يسمى قوات سوريا الديمقراطية حينذاك من طرد تنظيم داعش من شمال شرقي البلاد ومن آخر معاقله في الباغوز السورية وذلك في آذار عام 2019.
ترمب وعودٌ على بدء
في الواقع إن الوجود الأميركي والقواعد المنتشرة للقوات الأميركية في كل من سوريا والعراق باتت يوما بعد يوم منذ هزيمة داعش تلاقي الكثير من التحديات والصعوبات والتهديدات المباشرة وغير المباشرة، وذلك من قبل الحشد الشيعي، والفصائل الولائية الطائفية التي باتت تعتبر من أهم أذرع إيران المؤتمرة بأوامر حرسها الثوري، وباتت هذه الأذرع تتحرك في هذين البلدين وفقا لتوجيهات ورؤية خامنئي، ومن الواضح في الآونة الأخيرة أن التهديدات للمصالح الأميركية قد ازدادت عنفا وتكرارا.
وأدت إحدى الهجمات إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين في قاعدة أميركية بالأردن قريبة من الحدود السورية، وطبعا يأتي كل ذلك بعد أن شنت إسرائيل حربها التي لا ترحم على غزة ولبنان، ومحاولتها بكل إمكانياتها التدميرية إنهاء وجود حماس وحزب الله، والعمل بضوء أخضر أميركي على خلق واقع أمني جديد للمنطقة يتوافق مع مصالح تل أبيب وأهدافها المعلنة وغير المعلنة.
عمليا ومنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، بات الملف السوري شئنا أم أبينا يرتبط بهوية ساكني البيت الأبيض وإداراتهم المتعاقبة، وذلك نظراً لأهمية السياسات الأميركية المتبعة تجاه هذا الملف الذي يزداد تشابكا وتعقيدا في تحديد وتقييم اتجاهات العديد من الأمور والوقائع التي لايمكن الانحراف عنها أو تجاهلها أبدا في المشهد السوري العام اعتبارا من الدور الروسي المتعاظم، مرورًا بالوجود العسكري الإيراني والتركي والأميركي، وصولا لشكل التعامل القادم مع النظام السوري، ومصير قانون قيصر، وتوجيهات مسار أستانة سيئ الصيت، والمفاوضات غير المتوازنة بين النظام والمعارضة.
وبناءً على كل ذلك فحتما ستكون القضية السورية واحدة من قضايا المنطقة والشرق الأوسط المهمة والحاضرة بقوة على جدول أعمال إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب خلال ولايته الرئاسية الجديدة، خاصةً فيما يخص التلميحات والتصريحات التي أدلى بها عن طبيعة مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سوريا، وإمكانية العودة إلى ملف انسحاب القوات الأميركية من قواعدها فيها، وترك حليفها وذراعها قسد لمصيرها، ناهيك أيضا عن كيفية التعاطي الأميركي القادم مع نظام بشار الأسد، إلى جانب مستقبل العلاقات مع تركيا ووجودها العسكري في مناطق من الشمال والشمال الشرقي السوري، فضلا عن مستقبل استمرارية الضربات والغارات الإسرائيلية على الأهداف الإيرانية الموزعة على مساحات واسعة من أراضي البلاد.
تداعيات الانسحاب الأميركي المحتملة.. الخاسر والمستفيد
في الواقع وحتى هذا اليوم فإن واشنطن لاتزال تحتفظ بما يقارب من 900 جنديا في سوريا موزعين على قواعد عسكرية عدة منتشرة شرقي الفرات والتنف مثل حقل "العمر"النفطي و"الشدادي" و"وحقل التنك" وخراب الجير وغيرها.
ومن المعروف أن ترمب في ولايته الأولى أعلن في عام 2019 عن نيته التي لم تنفذ بسحب القوات الأميركية من كافة الأراضي السورية، والتي اعتبرتها قوات قسد حين ذاك أنها" طعنة في الظهر" وسط تعليل ترمب ذلك بأن قواته حققت هدفها القاضي بإلحاق "الهزيمة" بتنظيم "داعش".
ولكن ومع عودته القوية إلى الرئاسة مجددا وحتى قبل شهرين من دخوله لمكتبه البيضاوي، سرعان ما تحرّك هذا الملف الاستراتيجي، حيث إن السيناتور "روبرت كينيدي جونيور" وهو أحد أقرب الحلفاء من ترمب قال إن الأخير في رحلة له معه في طائراته الخاصة أعرب عن نياته بشأن سحب القوات الأميركية من شمال شرقي سوريا، وأن القوات الأميركية الموجودة هناك لن تكون "وقودا للمدافع في حال اندلاع أي قتال بين الأطراف المتصارعة في سوريا ويقصد هنا تركيا وقسد والنظام وإيران وروسيا.
عمليا وفي حال تحقق مثل هذا السيناريو، وبدأت القوات الأميركية بالانسحاب الكلي أو الجزئي التدريجي، فحتما سيكون هناك العديد من التبعات والتداعيات السياسية والميدانية التي من شأنها أن تغيير الخريطة الجيوسياسية والأمنية في سوريا، وخاصة في منطقة الشمال الشرقي، حيث يعني انسحاب القوات الأميركية من شرقي الفرات سحبا للغطاء وللضمانة والحماية الأمنية الحقيقية لقسد التي ستكون بذلك من أكبر الخاسرين، وهذا الأمر من دون أدنى شك ما سيضع هذه الفصائل تحت وطأة العديد من الحسابات والضغوط المصيرية مثل: الوقوع بين مطرقة وجود الجيش التركي في الشمال، وسندان النظام وإيران في الجنوب وهما اللذان ينتظران بفارغ الصبر تحقق هذا الانسحاب، وذلك لاستعادة السيطرة المطلقة على مناطق الجزيرة السورية الغنية بالنفط والغاز والثروات الزراعية، وعليه فإن مثل هذا السيناريو بالتأكيد سيجبر قسد وقيادات حزب العمال الكردستاني ومسؤولي ما يسمى بالإدارة الذاتية في سوريا إلى الهرولة الفورية إلى الحضن الروسي للتوسط بينهم وبين رأس النظام المجرم لتسليمه المناطق والعهدة التي يسيطرون عليها صاغرين وللأسف.
من طرف آخر فإن أي انسحاب قادم إن تم فسيصب أيضا في صالح طهران، وسيعزز من نفوذها وتمددها وسيطرتها خاصة على الطريق البري الواصل بين العراق والبحر المتوسط عبر سوريا ولبنان، وهذا ما سيحقق لها بالفعل الممر الآمن الذي خططت له لمواصلة دعم حزب الله وتسليحه بسهولة، هذا طبعا إذا لم ينته الحزب عسكريا بعد الحرب التي أعلنتها إسرائيل عليه، والشروط الصعبة اللاحقة التي ستفرضها عليه وعلى لبنان.
أما على صعيد مكافحة تنظيم داعش فمن الممكن أن يترتب على مثل هذا الانسحاب إن تم بالفعل آجلا أم عاجلا مخاطر محتملة حقيقية على الاستقرار المنقوص والهش في سوريا، حيث يمكن أن يؤدي تقليص الوجود الأميركي إلى عودة ظهور الجماعات المتطرفة وخاصة داعش، الذي مازال وكما تقول الأحداث حتى الآن أنه يواصل شن هجماته العنيفة على قوات النظام في البادية السورية، وعلى مقاتلي قسد في شرقي الفرات، ومما يزيد الأمر خطورة حقيقة هو عدم إيجاد أية حلول ناجعة تعالج وجود ما يقارب من 12 ألف من عناصر التنظيم في سجون قسد والتحالف، فضلا عن وجود الآلاف من عائلات التنظيم في مخيمي الهول والروج بالحسكة.
في الختام
إن الانسحاب الأميركي إنْ تم سيخلق فراغا جيواستراتيجيا وأمنيا في سوريا وربما في المنطقة، وهذا بحد ذاته ما سيدفع كثيرا من أصحاب النفوذ والفاعلين الدوليين والإقليمين للإسراع في سد هذا الفراغ الكبير الحاصل، وذلك عبر تحريك الأذرع والوكلاء المحليين، وهذا ما قد يتسبب بالعودة الحتمية إلى سيناريوهات الحرب والصراعات المسلحة في ظل عدم التوافق والوصول إلى أي حل سياسي يرضي كافة الأطراف المتنازعة، ما يعني وجوب إعادة ترتيب مشاهد توزيع السيطرة لصالح بعض القوى المتنفذة، وهذا كله بكل تأكيد سيأتي على حساب طموحات وآمال وأحلام الشعب السوري، وإطالة أكثر لمعاناتهم وحرمانهم من الأمن والاستقرار ربما لسنوات وسنوات قادمة.