ترمب التعبير الأصدق عن الأميركيين

2019.10.22 | 17:31 دمشق

thumbs_b_c_c6487dc7281ae1a043b97c5ae22680e8.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتّسم العلاقة بين مؤسسات الدولة وأنظمة الحكم في الدول الديمقراطية بحدود طبيعيّة ترسمها الدساتير والقوانين، وعندما يحاول نظامٌ سياسي ما أن يتجاوز هذه الحدود، يقع في مصيدة الملاحقة بكل مستوياتها، بدءاً من رقابة الرأي العام ممثلاً بالصحافة والإعلام وانتهاءً بأحكام القضاء. المثال الأبرز على هذا الأمر هو الصراع الدائر في الولايات المتحدة بين أغلب أجهزة الدولة وبين الرئيس دونالد ترمب.

اتّبع ترمب سياسة التشكيك بالنظام السياسي الأميركي مذ أن كان مرشّحاً، فقد شكك بنزاهة الانتخابات حتى قبل أن تبدأ لمجرد أنه وضع نصب عينيه احتمال عدم فوزه بها، لا ينطوي هذا الأمر على أي قدر من الثقة والإيمان بالنظام، بل يدلّ على

لعب الخطاب الشعبوي الذي رفعه ترمب دوراً كبيراً بالتسويق لبرنامجه عند جمهورٍ واسع من الناخبين

العكس تماماً. مع ذلك كلّه، ورغم أنه قادم من وسط رجال الأعمال ومن خارج الوسط السياسي التقليدي، فقد تمكّن من كسر احتكار السياسيين المخضرمين لهذا المجال، ونجح في هزيمة خصومه في الحزب الجمهوري، ثم منافسته المتمّرسة السيدة هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية.

لعب الخطاب الشعبوي الذي رفعه ترمب دوراً كبيراً بالتسويق لبرنامجه عند جمهورٍ واسع من الناخبين. بحسّ رجل الأعمال والمستثمر، استطاع ترمب المرشّح أن يستقرئ اقتراب زمن أفول النجم الأميركي الأسطع في العالم، فها هي الصين تحثّ الخطى لتتربّع على العرش من باب الاقتصاد والاستثمارات، وما العرض العسكري الكبير الذي قدّمته في احتفالات الذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية إلا رسالة في هذا الاتجاه. لذلك وجد الرجل ضالّته في إلقاء اللوم على المنظومة السياسية التي أوصلت أميركا لهذا الانحدار.

لعبت نرجسيّة ترمب العالية دوراً كبيراً في إدارته لأعظم وأقوى دولة في العالم بل وفي التاريخ البشري حتى الآن. سبّبَ هذا الأمر تصدّعاً ملحوظاً في ثقة الأميركيين أنفسهم بالنظام ككل. خرق هذا الرجلُ أعرافاً تواتر العمل بها منذ أنشأ "الآباء المؤسسون" هذه الدولة، ومثالاً على ذلك يمكن طرح مسألة تولّي صهره ملفّات حسّاسة جدّاً على صعيد السياسة الخارجية. كذلك أظهر الرجل استخفافاً كبيراً بقيم التسامح وعدم التمييز والمساواة واحترام حقوق الإنسان والمرأة، مما كان يحرص سابقوه من الرؤساء على التغنّي بها، بغض ّالنظر طبعاً عن تمثّلها والإيمان الحقيقي بها وتطبيقها فعلاً. وأعلن خروج دولته من عدد كبير من مؤسسات المجتمع الدولي مثل معاهدة باريس للمناخ ومحكمة العدل الدولية ومنظمة اليونسكو.

أطلق الرجل لآرائه العنان عبر منصّة تويتر، فلم يسلم من حدّة لسانه أقرب المقرّبين له، حتّى إنّ الناس - من باب التندّر- أطلقوا لمخيّلاتهم العنان حول حجر القضاء عليه ومنعه من استخدام جوّاله، أو إلزامه باستعماله ساعات محددة فقط...إلخ. يكفي أن نقرأ تغريداته على تويتر حول العلاقات مع تركيا وحول عملية "نبع السلام" بالذات. لقد كان يكتب صباحاً شيئاً ما، ثم يعود في المساء ليناقض نفسه، وفي آخر الليل يكتب ما يخالف ما قاله في النهار!

 شحذ الرجل كذلك سيفه وبدأ بتقطيع أوصال فريقه الذي دعمه وأوصله إلى سدّة الرئاسة، لم تشفع لمستشاريه وكبار موظفيه حماستهم ولا انصياعهم لرغباته، يكفي أن يُظهر أيٌّ منهم حدّاً أدنى من الاستقلالية أو الرأي المخالف حتى يطيح به بشكل سريع، لقد كانت إفادة محاميه السابق "مايكل دين كوهين" أمام الكونغرس صادمة للجمهور حينما قال: " ... أقرّ بأن بعضكم قد شككوا بمصداقيتي وأنني لم أتجاوب بالتحقيقات، لكنني قدّمت وثائق حقيقية وصادقة.... لقد ندمت على اليوم الذي وافقت على العمل به مع السيد ترمب، وإنني أشعر بالندم والعار لما قمت به من أكاذيب لمساعدته على النجاح بالانتخابات.... إن السيد ترمب كاذب وعنصري ومقيت... أقدم لكم صورة عن الشيك الذي دفع بموجبه أتعابي مقابل إجراء التسوية مع امرأة كانت على علاقة به... وأقدم صورة عن كتاب أرسله إلى المدارس التي هددها لمنعها من نشر نتائج دراسته فيها....". هذا الرئيس لم يتورّع حتى عن إهانة واستحقار كثير من زعماء العالم، ويبدو أنه أصبح أو في طريقه لأن يصبح عبئاً كبيراً على المجتمع السياسي الأميركي والدولي.

مشكلة ترمب أنه اعتقد بإمكانية التشكيك بالنظام القانوني مثلما شكّك بالنظام السياسي، فقد حاول منذ البداية الضغط على لجنة التحقيق بالتدخل الروسي المفترض آنذاك بالانتخابات الأميركية، وفي كلّ يوم تتكشّف وقائع جديدة تثبت فرادة هذه الشخصيّة الإشكالية. آخر الفضائح، تلك التي أجبرت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، على إعلان البدء بإجراءات عزله بعد أن كشف أحد موظفي

فتح ترمب، منذ وصوله إلى سدّة الحكم في البيت الأبيض، النار على الصحافة ووسائل الإعلام التقليدية، ونعتها بأوصاف شديدة

جهاز المخابرات الخارجية (سي آي إي)، المكالمة التي طلب فيها ترمب من الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، التدخّل والمساعدة في فتح تحقيق في مزاعم فساد بحق نائب الرئيس السابق والمرشح الديمقراطي الحالي جو بايدن وابنه هانتر. تبعتها بعد أيام فضيحة ثانية، تتعلق بطلب ترمب من رئيس وزراء أستراليا، مساعدة وزير العدل الأميركي بيل بار في العثور على معلومات تطعن بتقرير المحقق الخاص روبرت مولر، وتشكك في مصداقيته.

فتح ترمب، منذ وصوله إلى سدّة الحكم في البيت الأبيض، النار على الصحافة ووسائل الإعلام التقليدية، ونعتها بأوصاف شديدة لم يسبق أن وصفها بها أي رئيس أو مسؤول حكومي. بل وحاول اتخاذ إجراءات لمنع عدد من كبار الصحفيين وكبار الصحف من دخول البيت الأبيض لتغطية المؤتمرات أو اللقاءات التي يعقدها، ودخل مع بعض الصحفيين بمشادّات كلاميّة غير مسبوقة في الوسط السياسي الأميركي. حاول ترمب جاهداً تحجيم دور الصحافة والإعلام التقليدي، من خلال اعتماده تويتر منصّة للإعلان عن قراراته وسياساته، وهذا أحد أهمّ عوامل التأجيج ضدّه شخصيّاً، فلا يستهين أي عاقل بقدرة وتأثير وفاعليّة واستقلالية وعناد الصحافة في أميركا وغيرها من دول العالم الحر.

الحديث عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا يمكن اختصاره ببضعة أسطر، إنه أكثر رئيس إشكالي يصل إلى البيت الأبيض. ولو استثنينا مواقفه المنحازة بشكل لا يوصف للكيان الصهيوني، ومواقفه المعادية بكل فجاجة وعنصريّة لحق الشعب الفلسطيني وحقوق الشعوب العربية، فإنّه يمكننا القول، إنّه يعبّر تماماً وبكلّ صدق، عن شريحة كبيرة وواسعة من الشعب الأميركي. كثر هم الأميركيون الذين ما زالوا يفكرون بعقليّة رعاة البقر من زمن الغرب الأميركي. كذلك يعتبر الرجل صرخة عالية في وجه الرتابة والاحتكار الذين مارستهما النخبة السياسية منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية وحتى الآن.

يتنبأ كثير من المحللين، بأنّ ترمب سيفوز بولاية رئاسيّة ثانية، رغم كلّ هذه الفضائح والانتهاكات والخروقات، بل يؤكدون أنّ ذلك كلّه يشكل بالنسبة له نقاط قوّة لا نقاط ضعف في مواجهة منظومة سياسية كاملة، ففي مجتمع تنتخب فيه نسبة كبيرة من النساء، الرئيس الذي لم يخف ازدراءه لهنّ، بل وتحرّشه بالكثير منهن ممن عملن معه أو لديه، والذي تنتخب فيه شريحة واسعة من ذوي الدخل المحدود الرئيس الذي وعد بحرمانهم من ميزات برنامج التأمين الصحي الذي أقره سلفه، يمكننا توقّع الكثير من الغرائب والعجائب والمفارقات.