صحيح أن الدول ليست جمعيات خيرية، وصحيح أن من حقها أن تضع مصالحها فوق كل اعتبار؛ ومؤكدٌ أنها إذا عرفت طعم الديمقراطية تحترم حقوق الإنسان. وربما تكون عينها على ما يحدث خارج حدودها صاحية. تركيا، ها هنا ليست استثناءً؛ فبحكم الجغرافيا والتاريخ، اهتمت بما جرى ويجري في سوريا. ومنذ اندلاع الأحداث في سوريا، عبّر مسؤولوها عن ذلك. ولا ننسى ما قاله مؤسس حزب العدالة والتنمية فيها بأن "أي نار في سوريا، كأنها في تركيا". تصريحات مسؤوليها الحاليين تجاه أحداث سوريا ذهبت في ذلك الاتجاه، ولكنها اصطدمت على الدوام بخذلان الناتو؛ - وهي عضو فيه - وبتوجّس من التذبذب الأمريكي، ومبدأ السياقة من الخلف تجاه القضية السورية، وخاصة عندما عبّرت عن نيّتها في إقامة منطقة آمنة لملايين السوريين الذين تدفقوا إليها هرباً من جحيم طائرات "الوطن" منذ عام 2012.
بعد التدخل العسكري الروسي المكثف في سوريا، زادت تعقيدات المشهد بالنسبة لتركيا. دخلت مضطرّة مع فصائل الجيش الحر في اتفاقيات "خفض تصعيد" مع روسيا ومن تحميه أو "تضمنه"، علّها تساهم بخفض منسوب الدم والخسائر المحتمة أمام قطب دولي كان يوماً نظيراً ونداً لأمريكا، قطباً يتحالف مع مشروع إيراني توسعي خبيث، ونظام قرّر أن يقتل شعبه، ليبقى في السلطة. دخلت تركيا ومعها الفصائل في ظل خذلان أمرو-أوربي كانت مهمته الكلام والوعيد والإدانة والسياقة من الخلف. حمَلَت اتفاقات "خفض التصعيد" تلك بذور خرقها في بنيتها الأساس: فخفض التصعيد لا يشمل من سمّاهم حلف روسيا "الإرهابيين"؛ وهذا المصطلح ينطبق على كل سوري ليس مع النظام بعرفه. تمت الخروقات لتلك الاتفاقات؛ وكان أول من يركب باصات الرحيل "هيئة تحرير الشام" أو ما كان يُعرَف بالنصرة، لاستكمال مهامها في مناطق أخرى قادمة وبانتظار خرق جديد ، ونهاية اتفاقية جديدة؛ لتكون المحطة الأخيرة إدلب التي كانت رهينة للجولاني قائد النصرة كممثل محترف للنظام.
كانت أخف الأوصاف التي تُطلق عليها تجاه هذه المسألة /التردد/ و/الجُبن/؛ ولكن الأقسى عليها كان /التآمر/ مع روسيا
ويالعودة إلى تركيا، وفي ظل كل ذلك، كانت أخف الأوصاف التي تُطلق عليها تجاه هذه المسألة /التردد/ و/الجُبن/؛ ولكن الأقسى عليها كان /التآمر/ مع روسيا. والحجة التي تُساق للبرهان على ذلك أن المصالح التي تربط تركيا بروسيا (اقتصاد بالمليارات وفتور مع الغرب)، تدفعها لبيع السوريين والاستهتار بمصيرهم. أصحاب تلك السرديات يريدون لتركيا -في ظل خذلان من الناتو وأمريكا تحديداً، وفي جو من النفور والعداء العربي، وفي سياق تكبيلها الاقتصادي والتهديد الدائم لعملتها- أن تُقْدِمَ على الانتحار في مواجهة روسيا وإيران، وأن تندفع -ضمن هذا اللاتوازن المرعب، والسير على حد السيف بين مطارق الإجرام وسنادين الخذلان- باتجاه حروب لا تبق ولا تذر.
لم يكن اعتذار تركيا لروسيا عن إسقاط طائرة لها، كانت تقتل السوريين، بالأمر السهل أو العابر؛ إلا أنه كان بداية الاستبداد الروسي بتركيا في سوريا. فروسيا لا تريد منافساً لها في القضية السورية؛ وأي يد تدخل لا بد أن يكون تحريكها بتخطيط وإرادة روسية وبخدمة أهدافها الاحتلالية للمكان.
سعت تركيا، عبر السير على حد السيف، أن تحافظ على بعض ماء الوجه؛ وخاصة تجاه ما يحدث مؤخراً في الشمال السوري، مذكّرةً أحياناً باتفاقات أضنة، وأحياناً باتفاقات خفض التصعيد. وكانت الصدمة الكبرى باستهداف جنودها مباشرة، وقتل عددٍ منهم على يد الميليشيات العاملة تحت إدارة الروس. ردّت تركيا، وأعلنت قتل 35 ممن استهدفها. والمفارقة أنه حتى محاولة الحفاظ على بعض ماء الوجه تلك، لم تمررها روسيا؛ التي كذّبت التصريح التركي من جانب، وألقت باللائمة على الأتراك، بأنهم مَن تسبب بكل ذلك؛ لأنهم لم يُعلِموا الروس بمسير قافلتهم. ولو أنهم أخبروا الروس -أولياء أمر المنطقة- لما حصل لجنودهم ما حصل. وإمعاناً بالإهانة، صرّح الروس بأن الأتراك يقصفون من أرضهم خارج الحدود السورية؛ وذلك مخالفة للاتفاقات؛ وكأن الروس ملتزمين بالاتفاقات. وعندما ارتفعت عقيرة الأتراك بتصريحات حادة تجاه نظام الأسد والروس، قابلهم الطرف الآخر ببرودة وإهانات هادئة.
أمام هذا الحال، ما العمل؟! لا تستطيع تركيا أن تنكفئ، رغم خذلان أمريكا والناتو؛ فلا غنى لها عنهما، ولا غنى لهما عنها، أين تذهب بقاعدة "أنجرلك" مثلا؟. من جانب آخر، لا أحد يعرف بوتين بقدر ما تعرفه تركيا؛ ولا أحد يخبر منظومة الأسد بقدر ما تخبرها. لم يبق أمام تركيا إلا مواجهات متعددة. ولا يمكنها الاستمرار بهكذا حال تجاه القضية السورية. تركيا ليست بخبث بوتين، ولا بقوته؛ وما من دولتين بينهما ثلاث جبهات (القرم وليبيا وسوريا) كما بين الدولتين؛ ولكن مواجهة البلطجة ونكث العهود والإهانات تحتاج إلى ردع. من جانب آخر، لا بد من إشعار أوروبا أيضاً بأن موجات نزوح تلوح في الأفق تجعل حكوماتها تستنفر، وتضع روسيا في حالة حرج خانقة. الأهم من كل ذلك، أمام تركيا إما أن تزيل الذريعة التي يتسلّح بها الجميع: "النصرة"، أو أن تضعها ضمن امتحان يقلب كل المعادلات. وأخيراً على من تقف تركيا معهم ومع أهدافهم، أن يقوموا بما عليهم؛ وبذا، هي تنقذ نفسها، وهم يستعيدون وطنهم.