icon
التغطية الحية

ترجمات حكايات اللجوء بين الرواية والمسرح والمصير الشخصي

2023.03.04 | 05:40 دمشق

رواية
(لوحة: شيرين حريدين)
+A
حجم الخط
-A

إن قصص اللجوء التي نتناولها هنا، والتي يستلمها العمل الروائي والشهادة النصية، هي ليست تلك الحكايات التي تروي رحلة الهجرة والنزوح التي تناولتها العديد من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية، أو حكايات الاحتكاكات الثقافية بين اللاجئ/ة والمجتمع الجديد، أو تلك التي تروي حال المنفى والحنين، بل هي القصص الإدارية والمعلومات الواردة في الاستمارات القانونية التي يقدمها اللاجئ/ة للجهات الحكومية أو المؤسسات الدولية للحصول على حق اللجوء.

استمارات اللجوء الإدارية في إلهام الرواية والمسرح

الميزة الثانية التي تجمع بين العمل الروائي (حراس الهواء- روزا ياسين حسن) والشهادة النصية بعنوان (ترجمة قصص طالبي اللجوء: تأملات في دراماتورجيا الواقع- جمانة الياسري[1]) هي أن كلاهما مروياً من قبل المترجمين/ات الذين يعملون في مجال الوساطة بين اللاجئين/ات والمؤسسات الإدارية المعنية.

تفتح الكاتبة (جمانة الياسري) شهادتها باقتباس من قصة (الأرشيف والواقع- حسن بلاسم): "يقول الكاتب العراقي حسن بلاسم في مطلع قصة (الأرشيف والواقع): لكل نزيلٍ في محطة استقبال اللاجئين حكايتان: واحدة واقعية، وأُخرى أرشيفية. الحكايات الأرشيفية هي الحكايات التي يرويها اللاجئون الجُدد، من أجل الحصول على حق اللجوء الإنساني. وتدوَّن هذه الحكايات في دائرة الهجرة، وتحفظ في ملفات خاصة؛ أما الحكايات الواقعية، فتبقى حبيسة في صدور اللاجئين، ليعيشوا على ذكراها بسرية تامة".

وتضيف الياسري: "أنا أقول إنّ هناك حكاية ثالثة سريّة أيضاً، تلك التي تدور في عقل ولا وعي المُترجم، وهو ينقل ما يصفه بلاسم بالحكاية الأرشيفيّة إلى لغة بلد اللّجوء".

حكايات اللجوء بين الرواي والمترجم والقانون الإداري

هذه المترجمة التي تلعب دوراً في تلقي حكاية اللاجئ/ة وإعادة رويها إلى اللغة الرسمية هي الشخصية الرئيسية في رواية (حراس الهواء)؛ تعمل (عنّات) مترجمة في مكتب اللجوء بالسفارة الكندية في سوريا، بين سنوات التسعينيات من القرن العشرين وبدايات القرن الحالي. ومن خلال قصتها الشخصية والحالات التي تقابلها يطلع القارئ على حكايات اللجوء في تلك المرحلة التاريخية، وينتقل بين حكايات الشخصية الرئيسية الخاصة وحكايات زملاء العمل القانوني والإداري من جهة وبين حكايات اللاجئين/ات المروية في مكتب الهجرة من جهة أخرى، منها حكاية الشاب السوداني (سالفا كواجي) المسيحي من الجنوب، الذي كان منتمياً إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان، غير متزوج، قتل معظم أهله على مدار الحروب، وتم تعذيبه بسخانة كهربائية: "بسط أمامي صورة فوتوغرافية كبيرة لجذع سالفا الأسود اللماع وقد شعت عليه دائرة قرمزية مائلة للبني وسمت كامل بطنه الضامر. هو الحرق الذي لمحت طرفه حين وصلت".

روزا

وكما تنقل الرواية قصصاً من الآلام، تنقل أيضاً قصصاً من النضال والأمل، وتتعمق بعض القصص إلى العالم الذهني والنفسي للاجئين/ات: "لم يكن الليبي يعرف إلى أين سترمي به الأيام القادمة. كان ذاهباً إلى منطقة حمراء بجاني منطقة أخرى خضراء ليس إلا. هذا كل ما كان يعرفه، دون أسماء، دون تواريخ، ودون تفاصيل، بلاد جديدة يرمى إليها. بدا أن الهرب كان كل ما يهمه، وإلى أية بقعة في هذه الأرض إلا بلاده".

وإن كان نص الكاتبة الياسري يتناول دور قصص اللجوء في إعادة ابتكار الهامش، فإن العمل الروائي يقدم لنا تلك القصص، فتجربة الهجرة والنزوح تصيب بشكل أساسي تلك المجتمعات أو الفئات أو الثقافات المهمشة من قبل السلطات الحاكمة في مناطق عديدة من العالم، يروي (إيمانويل جيمو- كلداني من العراق): "نهاية الحفلة طلب إليّ الرفاق بإلحاح أن أعزف أغنية كلدانية، أغنية واحدة فحسب، كنت متقناً لها. فيما الجميع متشوق لسماع تلك الأغنية، باللغة الكلدانية وعلى الملأ، بعد أن حرمتنا السلطات لسنوات طويلة من المدارس والكنائس والكلدانية ومن جرس اللغة المحبب إلى أسماعنا. ما أن انتهت الأغنية حتى كان رجال الأمن العراقي قد أحاطوا المكان، مسلحين كجيش غادٍ إلى حرب. سدوا منافذ الخروج من المسرح، وأخذوا عشرات الشبان والفتيات الموجودين. كانت تهمتي التحريض على ثورة كلدانية للأقلية".

وكذلك، تحمل كل قصة من قصص اللاجئين/ات الخصوصية السياسية، الثقافية، والاجتماعية القادمة منها، فيروي مثلاً (محمد عواد- ولاية النيل الأزرق جنوب السودان) عن تلك اللحظة التي ينزح فيها مع عائلته هرباً من الموت، تاركاً جثة حبيبته غارقة أمام عينيه في البحيرة: "نزحت عائلتي بكاملها إلى مخيمات أثيوبيا. هربنا من بطش رجال البشير، ومن بطش متمردي الجنوب. هربت من المرأة التي أحبها، كانت أشباح البحيرة تطاردني. لا أعرف عدد الأجساد المشوهة المتكئة على قعرها. ربما مرت أيام قبل أن تنزل عائشة لتنضم إليها".

لقاءات اللجوء القانونية كعرض مسرحي

ينقلنا نص الكاتبة الياسري إلى الفن المسرحي، حيث تقرأ الكاتبة مجريات اللقاء بين اللاجئ/ة مع المكاتب الإدارية والقانونية المختصة في مجال اللجوء من زاوية العرض المسرحي: "في أثناء مقابلة تقديم طلب اللّجوء، هناك قدرٌ كبيرٌ من الأشياء التي لا تُقال، تماماً كما هو الحال في شرطيّة المسرح كفضاءٍ للحكاية، يقبل المُتفرّج أن يتماهى معه على الرغم من طابعه الاقتصاديّ والدلاليّ". وتشرح الياسري توزع الأدوار في مقابلات اللجوء بين الروي، التلقي، إعادة القص والتأويل على أنها دراماتورجيا يتداخل فيها الواقع بالمسرحة: "هناك دراماتورجيا خاصّة جدّاً بمقابلات اللّجوء، وجلسات الاستماع إلى طالبي اللّجوء الذين يطعنون بالقرارات التي تُؤخَذ بحقّهم. السينوغرافيا ثابتة لا تتغيَّر، إن كان فيما يُسمّى العُلبة(box)  في مكتب الحماية أم في قاعات محكمة حقّ اللّجوء، حيث يجلس هناك مؤدّي/طالب اللّجوء مقابل جمهور/موظّفي وقضاة الحماية. أمّا المُترجم، فيُمكن تشبيه دوره بدور الدراماتورج في المسرح، ذلك الشخص الذي يساعد على طرح الأسئلة وعلى فهم ما بين السطور. لكلٍّ دوره الثابت في هذه العمليّة الإجرائيّة القائمة على التكرار؛ إذْ تُطرح الأسئلة نفسها على الجميع، وإن طَرأ عليها بعض التعديلات حسب الحالات التي تُدرَس. وكما في العرض الحيّ، يتفاوت مستوى المقابلة، أو الجلسة، حسب مجموعةٍ من المعطيات الخارجيّة والداخليّة التي تُؤثِّر على الأداء والتلقّي، خاصّةً الطابع الدراماتيكيّ لحكاية طالب اللّجوء، وقدرته على الحكي، وإعطاء طابعٍ شخصيٍّ للأحداث وإثارة التعاطف، ومن ثمّ قدرة المُترجم على نقل/إعادة تمثيل القصّة".

حكايات اللجوء بين القانوني، التاريخي، والفني

إن المستجد فيما يحمله هذا العمل الروائي وهذه الشهادة النصية هي ما تراه كلا الكاتبتين في احتمالات التداخل بين الواقعي والفني، وفي احتمالات تحويل التاريخي إلى الأدبي أو المسرحي، تتناول رواية (حراس الهواء) هذه الموضوعة داخل النص الروائي، وخصوصاً حين تجري النقاشات بين الشخصيات عن التمايز بين ما هو تاريخي وما هو روائي، تقول الشخصية الروائية: "أكره التاريخ، تاريخ أي كان. التاريخ قشة نتعلق بها كي لا نغرق وسط قناعاتنا العميقة بأننا مرميون على هامش الحضارة. هذا هو التاريخ باعتقادي. اعتقد أن الرواية مثلاً قادرة على حفظ الحقيقة أكثر. هي غير مسوّرة بالقدسية التي يملكها التاريخ، ولن يتهمني أحد بالتجديف والخيانة إن لم أحفظ مقاطعها عن ظهر قلب ولم أؤمن بأبطالها الأسطوريين. ثم إنها تستطيع أن تؤرخ الأحداث عبر كل الأسنة وبكل الألوان. أليست ثلاثية إدواردو كاليانو (ذاكرة النار) هي تاريخ الهنود الحمر الحقيقي؟ وليذهب إلى الجحيم كل التاريخ الرسمي".

وفي مقطع آخر يبدو التماهي واضحاً بين المؤلفة الروائية وبين الشخصية الروائية في الحديث عن دور الرواية لدى كل منهما، أي المؤلفة والشخصية: "الروايات وحدها كانت قادرة على خلق عالم مواز، على تشييد تفاصيل يومية لكنها ليست بيومية، على استقدام شخصيات حقيقة لكنها ليست بحقيقة. الروايات وحدها كانت قادرة على نقل عنّات إلى واقع افتراضي، عالم رمزي، غني متعدد وملون بدل أحادية كل ما يحيط بها".

مرايا المصائر المتبادلة بين اللاجئ/ة والمترجمة والروائية

وإن بدت الكاتبة الياسري أكثر تحفظاً في قراءة قصص اللجوء على أنها أعمال فنية أو أدبية، فإن نصها يستخرج القصصي من الإداري والقانوني، ويحلل بشكل أساسي تلك العلاقة الثلاثية بين الراوي والمترجم والمتلقي القانوني. لكن كلا النصين يركز على نقطة أساسية وهي عملية التأويل التي يقوم بها المترجم، ويستطرد النص الروائي والشهادة في بحث العالم الذهني والنفسي والأدائي الذي يعيشه المترجم ضمن هذه المعادلة، تكتب الياسري: "المُترجم في دائرة اللّجوء لا اسم له، ولا جنسيّة، وإن كانت اللّهجات العربيّة تكشف بسرعة عن البلد، أو المنطقة التي يأتي منها المُتحدِّث. في الحكاية الثالثة، تتداخل قصّة طالب اللّجوء مع ذكريات المُترجم، والإسقاطات التي يُمكن أن يقوم بها بسبب علاقته الشخصيّة بفضاءٍ جغرافيٍّ وتاريخيٍّ ينتمي إليه أيضاً، إن كان عبر الجنسيّة التي يَحملها، أم عبر اللّغة كقاسمٍ مُشتركٍ بما تُحرّكه من ذاكرةٍ جماعيّةٍ لدى المُتحدِّثين بها. الانسجام مع صاحب الحكاية خطرٌ جدّاً؛ لأنّه قد يولّد حالةً من التحويل والتحويل المُضادّ التي تحدث على صعيد اللا وعي بين صاحب الحكاية والمُترجم، تماماً كما قد يحدث في علم النفس بين المريض والمُعالج، وقد تصل هذه الحالة إلى حدّ التماهي، خاصّةً أنّ المُترجم يقول (أنا) عندما يتحدَّث على لسان صاحب الحكاية. وكما في علم النفس أيضاً، ينبغي للمُترجم السيطرة على مشاعره، ومقاومة رغبته بالتواطؤ مع مُقدِّم الطلب؛ أي الامتناع عن مساعدته عبر إجراء تعديلاتٍ على السرد يعرف المُترجم أنّها قد تدعم طلب اللّجوء؛ لأنّ ما يقوله صاحب الحكاية؛ أي قدرته على القَصّ، والإقناع، وإعطاء طابعٍ شخصيٍّ للأحداث؛ هي من أهمّ العناصر التي ستجعل طلبه يجد قبولاً في دوائر اللّجوء".

إن ما يجمع بين الرواية والشهادة يكاد يكون أعمق من كل ما سبق، وهو تلك المرايا المتبادلة في المصائر بين اللاجئ/ة وبين المترجم/ة والكاتبة، وهو ما تعبر عنه الياسري بعبارتها: "إنّ عالم طالبي اللّجوء، وعالم المترجمين في مجال اللّجوء الإنسانيّ، هما مرآة لبعضهما؛ لأنّ أسباب مغادرة المترجمين لبلدانهم شبيهة بأسباب مغادرة طالبي اللّجوء، وإن لم يكونوا بالضرورة مُعرَّضين للخطر على نحوٍ شخصيٍّ: الحرب، تفشّي العنف، الأزمات الاقتصاديّة، الانعتاق الشخصيّ من القمع الاجتماعي". وهو ما ستعيشه الروائية روزا ياسين حسن في الحياة الواقعية في العلاقة مع شخصيتها الروائية (عنّات). فالشخصية الروائية المترجمة (عنّات) تنتقل من واقع المترجمة إلى مصير اللجوء، والكاتبة الروائية نفسها روزا ياسين حسن ستعيش أيضاً هذا الانتقال المصيري من دور المترجمة إلى دور اللاجئة بعد أحداث العام 2011 في سوريا.

تقول الشخصية (عنّات) في الرواية: "اللجوء! لم يخطر ببالي يوماً أني سأوضع في مكان أولئك المساكين الذين يقفون أمامي لأترجم لهم قصصهم. الآن سنكون، جواد وأنا، في الموقف ذاته، لكن في مكان آخر. هناك من سيقرر مصيرنا أيضاً". وتقول الكاتبة روزا ياسين حسن في حديث خاص معها: "لم أكن أتوقع أني حين ابتكرت شخصية عنّات وكأنني أتوقع مصيري الشخصي المستقبلي".


[1] - نشرت على موقع (إعادة ابتكار الهامش)، للاطلاع على نص الشهادة كاملاً: https://reinventingthemargin.com/dramatologie-ar/.