تراجع الدور الأميركي عالمياً ودوره في التقارب السعودي - الإيراني

2023.03.20 | 05:31 دمشق

تراجع الدور الأميركي عالمياً ودوره في التقارب السعودي - الإيراني
+A
حجم الخط
-A

لم يكن تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991 إيذانا بنهاية الحرب الباردة فحسب إنما هو تحول دراماتيكي ومفاجئ من نظام دولي ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية تتربع على قمة هرمه الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها القوى الغربية بشكل عام، إلا أن هذه الحالة لم تستمر طويلا، وسرعان ما بدأت تظهر معطيات جديدة جعلت موازين القوى غير واضحة تماما، وحلّ الشك مكان اليقين حول فكرة القطب الأوحد، وبشكل عام، يمكننا أن نقسم الفترة الممتدة من عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي حتى الآن إلى مرحلتين متمايزتين بشكل واضح؛ تبدأ المرحلة الأولى من تاريخ تفكك الاتحاد السوفييتي 1991، وتمتد حتى أحداث الحادي عشر من أيلول وما تبعها من غزو لأفغانستان والعراق. أما المرحلة الثانية، فهي الفترة التي تلت هاتين الحربين.

بعد أن وصفت المرحلة الأولى بمرحلة التفرد الأميركي أصبح كثير من المراقبين والمحللين السياسيين يفضلون أن يعتبروا المرحلة الممتدة من أحداث 11 أيلول حتى يومنا هذا مرحلة انتقالية من نظام دولي أحادي القطبية إلى نظام دولي آخر لم تتضح معالمه بعد، وقد أدلى كثيرون بدلوهم في هذا الشأن محاولين استشراف مستقبل النظام الدولي، وذهب بعض الباحثين في العلاقات الدولية إلى وصف طبيعة النظام الدولي الحالي "باللاقطبية"؛ أي توزع القوة بين الفاعلين في النظام الدولي بدلا من تركزها، ولكن مع قدرة الولايات المتحدة على إدارة الأمن العالمي. لذلك، يمكن القول إن صانعي السياسة الأميركية أصبحوا يواجهون بيئة استراتيجية أشد غموضا وتعقيدا وإثارة للهواجس من البيئة التي واجهها أسلافهم.

مع نهاية سنة 2007، صار هناك حديث متداول حول مسألة الانحدار الأميركي، وشكوك بخصوص التخمينات الطويلة المدى لبقاء الدولار باعتباره عملة الاحتياط الأساسية في النظام الدولي

بينما كانت الولايات المتحدة منهمكة في حروبها الطويلة كانت بعض القوى الأوراسية تبني قوتها بخطى متسارعة وراسخة، وهو ما اصطلح بعض الباحثين على تسميته بـ"الصعود الأوراسي"، ومع نهاية سنة 2007، صار هناك حديث متداول حول مسألة الانحدار الأميركي، وشكوك بخصوص التخمينات الطويلة المدى لبقاء الدولار باعتباره عملة الاحتياط الأساسية في النظام الدولي. جرى أيضا حديث خافت بخصوص النظام المتعدد الأقطاب في مراحله الأولى، وكلها مواضيع بدأت تأخذ مكانها في نقاشات السياسة الخارجية الأميركية بين الرسميين والأكاديميين على حد سواء. وفي كتابه "عالم ما بعد أميركا" تحدث فريد زكريا عما سمّاه "نهوض البقية"، وجاء تحت هذا العنوان: "لا يظهر هذا الكتاب انحطاط أميركا بقدر ما يظهر عن نهوض الآخرين".  ويحاجج بالتراجع الملحوظ في مصادر القوة الأميركية منذ بداية القرن الجديد. وسواء تعلق الأمر بانحطاط أميركا أم بصعود الآخرين فالنتيجة هي تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة الأميركية. وبالنتيجة: لا بد لهذا التراجع أن يلقي بظلاله على السياسة الخارجية الأميركية.

تعتبر نظرية السياسة الخارجية: "نظرية السلعتين" من أكثر النظريات العامة للسياسة الخارجية دقة وعمقا، وتنطلق هذه النظرية من فكرة أساسية تتلخص بأن الدول من خلال سياستها الخارجية تسعى وراء شيئين وهما تغيير وضع ما والحفاظ على وضع ما. ومن ضمن ما تطرقت إليه النظرية: أثر تناقص قوة الدولة على سياستها الخارجية، يقول المؤلفان بهذا الخصوص: "ولنتحول إلى تأثيرات تناقص القدرة النسبية على السياسة الخارجية الأميركية. تتنبأ النظرية، مع تنحية السياسة الداخلية جانبا، بتخفيضات ملحوظة في السياسات الرامية للتغيير وانتقاص محدود في السياسات التي تنشد الحفاظ على الوضع القائم.. ونتوقع أيضا أن نرى سياسات أقل سعيا للتغيير؛ فسوف يتم تجنب التحالفات غير المتكافئة وهي تلك التي تتم بين الولايات المتحدة ودول أضعف كثيرا، لصالح تكوين ارتباطات أوثق مع دول قوية. وطبقا للنظرية سوف تخفض الولايات المتحدة الالتزامات القائمة، وذلك من أجل توفير الموارد المطلوبة لإنجاز الحفاظ الناتج عن تلك السياسات، ولنا أن نتوقع أيضا معدلا منخفضا من مبادرات إثارة النزاع، وهي سياسة أخرى تعد الأكثر ارتباطا بالسعي إلى التغيير، وفي أثناء فترات تناقص الإمكانات النسبية، حيث ينبغي أن يوجد تقدم تكنولوجي أبطأ في المجال العسكري؛ نتوقع مستوى منخفضا من المعونة الخارجية، وتخفيضات في استخدام النشاطات السرية للتأثير على الدول الأخرى وينبغي الإقلال منها كذلك".

لم تعد المملكة العربية السعودية ومعها معظم دول الخليج العربي ترى في الولايات المتحدة سوى ليثٍ تلاشت أنيابه وأظافره

بدأت مظاهر تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة الأميركية منذ إدارة الرئيس "أوباما"، وتجلت بالتدخل الخجول في ليبيا والنأي بالنفس عن التدخل الفعلي في سوريا، بل هو أعلن بوضوح أن الولايات المتحدة سوف تبدأ بالتخلي عن التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط لصالح مناطق أخرى، وهو ما كان يعني أن الموارد التي تستطيع الإدارة الأميركية توفيرها لا تكفي للانخراط الفعال في كل القضايا الأمنية حول العالم. لكن التراجع الأميركي في إنتاج سياستي "التغيير" و"الحفاظ" ازداد وضوحا بعد أن سحبت الولايات المتحدة بطاريات صواريخ "باتريوت" على إثر التوتر الذي حصل بين تركيا وروسيا في سوريا بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية. وكانت تركيا أول الحلفاء الممتعضين من الإستراتيجية الأميركية الجديدة، إذ برهنت الولايات المتحدة أنها لم تعد ذلك الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه.

ضمن السياق ذاته؛ لم تعد المملكة العربية السعودية ومعها معظم دول الخليج العربي ترى في الولايات المتحدة سوى ليثٍ تلاشت أنيابه وأظافره، وبدأت تبحث لنفسها عن تحالفات أخرى تضمن مصالحها، من هنا يعتبر الإعلان المفاجئ عن اتفاق سعودي – إيراني برعاية صينية نتيجة طبيعية للفراغ الذي أحدثه تراجع الدور الأميركي الناتج عن تراجع قوتها النسبية. وفي مجمل الأحوال؛ سواء نجح الاتفاق أم لم ينجح، فإن الصين نجحت باستمالة السعودية. لكن الأهم من ذلك أن تلك المفاجأة لن تكون الأخيرة، وأن تلك التحولات والتقلبات لن تمر بهدوء وسلام.