
بين أربعة جدران عتيقة يمضي "أبو إبراهيم" السّاعات الطّوال في ترتيب أعواد القصب وجمع باقات القشّ المستخدمة في صناعة المكانس القديمة، المهنة التي عرفها قبل 20 عاماً ولم تثنه الأيّام عن المضي في مزاولتها وتعليم أولاده وصنّاعه سرّ هذه المهنة التي تعتمد على الدّقة والذوق كي تنتج بضاعة متقنة تحفظ مكانة صناعة عرفتها الحارات القديمة في مدينة إدلب منذ عقود طويلة.
عُرفت محافظة إدلب بكثير من الصناعات التقليدية، تعود في تسلسها الزمني إلى العهود التاريخية القديمة منها الفينيقي والبيزنطي والكنعاني، وإلى يومنا هذا يستمر حرفيّو هذه الصناعات في مزاولتها وتقديم أعمالهم وعرضها على الرغم من الظروف القاسية التي خلفتها السنوات القليلة الماضية، حالت من تطوّرها أو حتّى المحافظة على منتوجها القديم، في مقدّمتها صناعة الفخّار والزّجاج والموزاييك إلى جانب صناعة مكانس القشّ.
صناعة "مكانس القشّ" في إدلب القديمة
تبدأ الحكاية من على ضفاف نهر الفرات وتحديداً منطقة الجزيرة حيث يتمّ زراعة نبات (المكنس) المادة الأساسية لصناعة المكانس لتتحوّل فيما بعد إلى أكداس من القشّ يتمّ نقعها أكثر من 10 ساعات، ويبدأ "أبو إبراهيم" بعد تجفيفها وترتيبها ضمن باقات في عملية التّربيط حيث يظهر الشكل الأوّلي للمكنسة القديمة، ويتمّ تدعيمها بباقة أخرى من القصب وهو أكثر قساوة من القشّ ويحافظ على قوامها، لتبدأ عملية الخياطة والتزيين والتثبيت.
شهدت الصناعة ازدهاراً كبيراً في الفترة التي سبقت اندلاع الثورة السورية، وباتت العاصمة اللبنانية بيروت الوجهة الرئيسية لمنتوجها، فضلاً عن محافظات سوريا مختلفة منها دمشق وحلب وحماة، إلا أنّها اليوم تسجل تدهوراً ملحوظاً في إنتاجها، ويعزّي "أبو إبراهيم" الأسباب لضعف الطلب عليها، ساهم في ذلك صعوبة المواصلات وفرض الأتاوى والضرائب وصعوبة تأمين المواد الأولية وكذلك ظهور الصناعات الحديثة، حيث يقتصر ترويج البضاعة على السوق المحلية بدخل لا يتجاوز الـ4 دولار أمريكي يومياً، ملفتةً إلى أنّها من المهن الشاقة جدّاً.
صناعة الإبداع.. موزاييك كفرنبل يصل إلى العالميّة
قبل أكثر من عشرين عاماَ وتحديداً في العام 1996 دخلت صناعة لوحات الموزاييك "الفسيفساء" منازل مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، قبل المشاغل المخصصة للتصنيع وشاعت بين الأهالي بشكل كبير وبدأت تأخذ بعداً ثقافيًّا وفنيّاً على مستوى البلاد، حتّى شقّت منتوجات المدينة من لوحات الفسيفساء طريقها إلى العالميّة، وصار يروّج للقطع المشغولة يدويًّا عبر المواقع الإلكترونيّة.
إنتاج مدينة كفرنبل مِن الموزاييك وصل حتى بداية العام 2011 كمتوسط من 700 متر مربع إلى 900 متر شهرياً
في حديث لموقع تلفزيون سوريّا، قال "محمد الخطيب" مصمم لوحات الفسيفساء في مشغل إيبلا، أحد أبرز الشركات المرخّصة في المدينة: "إن إنتاج مدينة كفرنبل وصل حتى بداية العام 2011 كمتوسط من 700 متر مربع إلى 900 متر شهرياً، فضلاً عن عدد من المشاعل والورش انتشرت في المدينة، بالإضافة إلى البيوت، حيث كان تعطي دخلاً جيداً لصاحبها".
ويلخّص "الخطيب" طريقة صناعة اللوحة عبر العديد من المراحل أوّلها الرسم والتّصميم، وهي إما تكون نموذجاً جديداً أو بطلب من الزّبون "منظر طبيعي، لوحة شخصية، هندسية، حيوانية، نباتية أو زخارف"، ومن ثم يتمّ نشر قطع الرخام كأقلام وتستخدم حسب الرسمة المطلوبة، وتفرش الرسمة على أرض المشغل وتغلّف بـ"نايلون شفّاف" ويوضع فوقه تماماً "الغربول"،
ويضيف "الخطيب": "يَستخدم الحرفي في عمله قطّاعة يدوية لتقطيع أقلام الموزاييك ومادة لاصقة على غربول اللوحة ويتم لصق قطع الرخام عليها، حيث كل متر مربع واحد يحتوي أكثر من 10 آلاف قطعة من الرخام، وبعدها تخضع لعملية تدقيق ومن ثم ترسل للزّبون".
ما يقارب الـ 75% من إنتاج المدينة كان يصدّر إلى شركات لبنانيّة وهي بدورها تصدره إلى الدول الأوربية وأمريكا، بينما ربع الإنتاج يتم ترويجه في السوق المحلي إضافة لدول الخليج وبعض الدول العربية منها الأردن، حتى وصل بشركات صناعة الموزاييك فتح حسابات مصرفيّة وبيع لوحات الفسيفساء عبر المواقع الإلكترونيّة، وبيعها للمستهلك بشكل مباشر ومنها شركة إيبلا.
تستخدم اللوحات في مختلف الأماكن منها المسابح والمنازل والكنائس والمساجد، إلا أنه مع تدهور الحالة الأمنيّة قلّ الطلب بشكل كبير ما أدّى إلى إغلاق الكثير من المشاغل والشركات وفقاً لـ"الخطيب" وأوضح في ختام حديثه أنّ صعوبة تأمين المواد الأولية من الرخام والحجر إلى جانب هجرة اليد العاملة وارتفاع تكاليف الشحن وقطع الطرقات وفرض الضرائب، سبب في تراجع الصناعة محلياً، ما دفع بعض الرائدين في مجال صناعة الموزاييك إلى تأسيس عمل جديد بدول مجاورة في مقدّمتها تركيّا.
مهنة الأجداد.. تعرف إلى صناعتي الزّجاج والفخّار الأرمنازي
تعد مدينة أرمناز بريف إدلب أمّ الصناعات التقليدية في المحافظة، قامت فيها أقدم الصناعات وأعرقها بدءاً من صناعة الفخّار العائدة للعهد الفينيقي إلى صناعة الزّجاجيّات الكنعانيّة المنشأ بمختلف أنواعها وفقاً للروايات التاريخية، حيث تمتاز المدينة بتنوّع في التّرب بين الصفراء والحمراء والتربة الرّملية شكّل ذلك عاملاً هامًّا في قيام هذه الصناعات لمئات السنين واستمرارها حتى يومنا هذا، بحسب ما يفيد "حسن مرعي" أحد ممتهني حرفة الفخاريّات في المدينة.
تبدأ صناعة الفخّار وفقاً لـ"مرعي" بطحن الأتربة ومن ثم مرحلة العجن عبر آلة مخصصة، بعدها تأخذ العجينة وقتاً قصيراً معرضة للهواء لتكتسب قساوة، إلى أن يتم قولبتها على الدولاب وهي المكنة التي يتفنّن الحرفي بيديه بإخراج الشكل النهائي للقطعة المصنوعة، وفي المراحل الأخيرة تخضع لعملية النقش والزخرفة وهي أكثر ما تكون حسب الطلب، وتدخل أخيراً الفرن لمدة 4 ساعات بدرجة مئوية تبلع الـ 1000، حيث يدخل في صناعتها مختلف الأواني المنزلية إضافة إلى التّحف وقطع الزينة، أمّا صناعة الزجاجيّات فهي شاملة لمختلف الأشكال من بلورات الكاز وقواعدها إلى الأواني المنزليّة وزجاجات النرجيلة وهي الأكثر طلباً وشيوعاً في السوق المحلي.
أسباب تراجع الصناعات في أرمناز
يوضح "مرعي" خلال حديث لموقع تلفزيون سوريّا: "أن الصناعة عادت إلى أدائها القديم والتقليدي، وباتت تقتصر على بعض الأواني المنزلية من الأباريق والخوابي، المستعملة من قبل الأهالي صيفاً في تبريد المياه، وذلك بعد أن شقّت طريقها إلى دول أوربية وعربية كثيرة عبر مئات الأصناف من التحف المنقوشة والقطع الفخّارية المزيّنة، وبلغت الصناعة مبلغاً ظاهراً من التطور"،
وعن أسباب تدهّور الصناعة، قال: "إنّ صعوبة تأمين المواد الأوّلية المتمثلة بشكل أساسي من الترب والرمل، وارتفاع أسعار المحروقات المشغّل الرئيسي لها، إلى أكثر من 10 أضعاف رافقه انقطاع التيار الكهربائي، وكذلك تكاليف النقل العالية وفرض ضرائب على البضاعة بضعفي سعرها الأصلي، أدّت بمجملها إلى توقف عجلة هذه الصناعات، واقتصارها على تأمين حاجيات السوق المحلي فقط،
ويختم الحديث قائلاً: "لم يعُد الدافع ماديّاً اليوم في عملنا، نظراً لضعف المردود إنما فقط الحفاظ على هذه المهنة التي اشتهرت بها المدينة وباتت جزءاً من تاريخها، ونطمح بتعليمها لأبنائنا من بعدنا كما تلقيناها عن آبائنا وأجدادنا".