تحول يحافظ على مسيرة الاستبداد من "قسد" إلى "قسم"

2019.10.16 | 15:21 دمشق

3d23c938274c5045c7444a0a.jpg
+A
حجم الخط
-A

وأخيراً، انطلقت العملية التي كثر الحديث عنها وطال، وهي عملية دخول القوات التركية مع الجيش الوطني المدعوم منها، إلى مناطق الجزيرة السورية (التي صارت معروفة في الخطاب الإعلامي والسياسي، بحكم الأمر الواقع، بشرق الفرات) وسط اضطراب واختلاف علني في مواقف الإدارة الأميركية، وخاصة بين البنتاغون والكونغرس من طرف، والبيت الأبيض من طرف آخر. والأمر الغريب واللافت للنظر هو مدى التنديد الذي لاقته هذه العملية من الدول والأحزاب والأفراد من جهة، ومن جهة أخرى التضامن منقطع النظير مع قوات سوريا الديمقراطية (التي ليس لها من اسمها أيّ نصيب، فهي ميليشيات وليست قوات، وقيادتها ليست سوريّة، كما أنها أبعد ما تكون عن الديمقراطية) كتعبير عن قيم العصر الجديد التي تجتاح عالمنا، وأهمّها قلب الحقائق التي حكى عنها جورج أورويل في رائعته 1984، ويطبقها عالم ترمب واليمين الجديد.

لا يُفهم تضامن أوروبا مع قسد إلا على أنه موقف ضد تركيا، وهو موقف متجذر في التاريخ والعقل الأوروبيين تجاه عالم غير أوروبي وغير مسيحي، تجرأ وكاد أن يجتاح أوروبا ذات يوم في القرنين السادس والسابع عشر، ذلك الحدث الذي أسس موجة من العداء تجاه العالم الإسلامي، رغم عدم النجاح في تحقيق أهدافه، وفشله في معركة فيينا 1683، ومن أبرز مظاهر ذلك العداء في المباحثات الماراثونية حول الانضمام للاتحاد الأوروبي. تزايد هذا العداء بعد تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا التي أسست لنموذج من الديمقراطية في بلد سكانه مسلمون. ورغم كل العثرات والنواقص، وصعود شخصية مثل أردوغان، تطمح إلى دور أكبر من الدور الإقليمي لبلاده، كما يسعى لأن تكون بلاده نموذجاً لتجربة ديمقراطية في العالم الإسلامي، ومنه البلدان العربية.

فاقم العلاقة المتوترة في الأصل بين أوروبا وتركيا، ما حدث من موجة تهجير كبير للسوريين نتيجة القمع الشديد الذي مارسه نظام الأسد ضد السوريين، حيث كان لتركيا النصيب الأكبر من الفارين من المقتلة، إذ وصل إليها الملايين، واستقر فيها تحت بند الحماية المؤقتة حوالي ثلاثة ملايين ونصف، مما وفر لها ورقة تضغط من خلالها على الجانب الأوروبي -الحلم بالنسبة للسوريين وغيرهم كمستقر- الذي يخشى من تزايد أعداد المهاجرين، وما قد ينجم عنها من مشكلات سياسية واجتماعية ودينية، أبرزها ما نشهده من صعود موجة اليمين، والعداء للإسلام.

لم يعد هناك سورية، بالمعنى المتعارف عليه وإنما صار هناك جغرافيات سورية من أمثال (جنوب سوريا، وشمال غرب سوريا، والشمال السوري، وشمال شرق سورية أو شرق الفرات)

نتيجة للتدخلات الإقليمية والدولية في سورية، بعد تعامل النظام الوحشي مع السوريين، واستجلابه للميليشيات الطائفية، والتدخل الإيراني والروسي من بعده، لم يعد هناك سورية، بالمعنى المتعارف عليه، وإنما صار هناك جغرافيات سورية، من أمثال (جنوب سوريا، وشمال غرب سوريا، والشمال السوري، وشمال شرق سورية، أو شرق الفرات)، والمنطقة الأخيرة هي التي سيطرت عليها قسد بطريقتين: الأولى نتيجة مفاوضات مع النظام، والثانية بعد تدميرها، بالاشتراك مع قوات التحالف الدولي أثناء المعارك ضد داعش.

لم يكن موقف حزب الاتحاد الديمقراطي منحازاً لقضية السوريين في ثورتهم ضد نظام الأسد، بل يمكن القول إنه أقرب إليه من حيث تشاركهما في الموقف من الثوار، وتصرف وفق مصلحة ضيقة تصل إلى حد الانتهازية على أساس المشترك مع النظام، فكانت عمليات الانسحاب من المناطق التي يوجد فيها الأكراد وتسليمها للحزب من دون طلقة واحدة، حيث أقام فيها سلطته الدكتاتورية تحت اسم "الإدارة الذاتية"، وأطلق العنان فيها للأسايش -مخابرات الحزب- للتنكيل بالمعارضين للنظام أكراداً وعرباً، فهجّر، واعتقل منهم كثيرين، وقتل بعضهم في سجونه السرية، مثل سجن المعصرة في اعزاز الذي يشبه سجن تدمر البشع. 

في أوائل العام 2016، دخلت قوات الحزب قرى الريف الشمالي لحلب، بالتعاون والتنسيق مع النظام وروسيا، وهجّرت حوالي مئة ألف من أهاليها إلى المخيّمات، وعند خروج الحزب من عفرين عقب دخول تركيا إليها في العام الماضي، قام بتسليم المعتقلين إلى النظام، وهو يدرك أنه يسلّمهم إلى الموت، ومنهم من صُفّي فعلاً، أما ما فعله الحزب في المناطق التي استعادها من سيطرة داعش فلا يختلف كثيراً، حيث هجّر السكان الأصليين، وغيّر أسماء المناطق بنفس الأسلوب الذي اتبعته سلطات البعث مع القرى والبلدات الكردية.

كانت علاقة ذلك الحزب مع التحالف الدولي، وتحديداً مع الولايات المتحدة، كما ذكرها ويعرفها السيد ألدار خليل، مسؤول العلاقات الخارجية في قسد ومسد، في حديث مع أحد المسؤولين الأميركان، إذ قال له ذلك المسؤول: "إن الأكراد هم مثل عشيقة، أو صديقة للولايات المتحدة. نأتي إليها عندما نحتاجها، ونحن نعلم أنها ستكون جاهزة". (مقابلة أجرتھا مجموعة الأزمات، أربیل، 12 تشرين الثاني 2016)، علاقة تعاقدية محددة الهدف، وفي تلك العلاقة، كان الشرط محاربة داعش، الهدف الأساسي للولايات المتحدة في سورية، والذي وافق عليه الحزب. ولربما تطورت العلاقات بين ضباط البنتاغون وعناصر قسد لشكل أبعد من تلك العلاقة، لتكون فيها قسد أداة نفوذ لتحقيق المصالح الأميركية في المنطقة، بينما لم تتمكن تلك العلاقة من اكتساب أي صفة دبلوماسية وسياسية من الإدارة الأميركية، وهو ما يعكس التناقض الحالي ضمن أركان مؤسسة الحكم الأميركي.

في حديث مطول للسيد صالح مسلم مؤخراً (ندوة أقامها تيار مواطنة في أوروبا)، اعتبر أن المشكلة الرئيسية للسوريين هي تركيا وأردوغان، في تعبير صريح يفضح ادعاءاته التي تنافي تبعيته لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وأن انسحاب تركيا من سوريا سيحل القضية السورية، أما روسيا وإيران والولايات المتحدة وإسرائيل، فيغيب الحديث عنها، ببساطة لأنها تدعم استمرار نظام الأسد، الشريك في قمع ثورة السوريين، ولربما كشفت مؤخراً مقالة مظلوم عبدي، "القائد" الفذ للوحدات في مجلة فورين بوليسي، والإعلان عن الاتفاق بينهما واستبدال قوات سورية الديمقراطية (قسد) بقوات سورية المشتركة (قسم) عن تلك العلاقة، ومهدت لعودة الفرع إلى الأصل.

الجديد في التضامن مع قسد موقف جوقة أنظمة الاستبداد التي تقودها السعودية والإمارات التي لم تبد أي موقف وحتى "قلق" تجاه ضربات صديقهما نتنياهو على البلد الذي يتباكون اليوم على "سيادته"

الجديد في التضامن مع قسد، موقف جوقة أنظمة الاستبداد التي تقودها السعودية والإمارات، التي لم تبد أي موقف وحتى "قلق" تجاه ضربات صديقهما نتنياهو على البلد الذي يتباكون اليوم على "سيادته"، ومولوا حملة صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، وقدموا المساعدات والأموال لقسد بعد استعادة الأراضي من داعش، وحاولوا  تجييش العشائر العربية في المنطقة الشرقية ضد تركيا، التي تدخل معها في صراع حول دور الإسلام السياسي وزعامة العالم الإسلامي السني، ولسوء الحظ نحن من يدفع الثمن.

الطرف الثالث المتضامن مع قسد، اليسار العالمي والعربي الإقصائي الذي يعتبر أن سبب الاستبداد في بلادنا وغيرها هو الدين (وهنا الإسلام) وليس استبداد العسكر والمخابرات، وسبب تضامنه واضح جداً، الموقف من حكومة العدالة والتنمية التركية، ذات الجذور الإسلامية، على الرغم من أن ما يسم السياسة الخارجية التركية في عهدها هو المصلحة القومية المحافظة تحديداً، وليس التوجه الإيديولوجي المتوهم، ودعم الحركة القومية التركية لتلك الحكومة ومشاركتها مثال واضح على ذلك، فضلاً عن علاقتها مع روسيا وآثارها على السوريين.

يفرض التصارع العسكري والسياسي على السوريين خيارات لا يريدونها، فالجغرافيا والمصالح والصدوع الطائفية والعرقية تسم كثيرا من الخيارات والمواقف، بغض النظر عن المعركة الحالية ضد قسد والتي يمكن تشبيهها بأنها شرٌّ لا بد منه، وقد سبقتها معارك مشابهة بين أطراف أخرى.

أمام تلك الفوضى والتصارع، هل بقي ثمة أمل حقيقي للسوريين في استعادة بلادهم ونقلها نحو حكم ديمقراطي يحترم حقوق الجميع، من دون الاستفادة من التصارع الحالي، أم أن ذلك ما يزال بعيداً؟