بسرعة كبيرة ودون سابق إنذار، استعادت فصائل المعارضة السورية مساحات شاسعة من ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي خلال أقل من 48 ساعة على بدء عملية "ردع العدوان" ضد قوات النظام السوري وحزب الله والميليشيات الإيرانية التي تقصف بشكل شبه يومي مناطق شمالي سوريا وتتسبب بمقتل وجرح المئات من المدنيين منذ توقيع اتفاق سوتشي في نيسان 2020.
وبدت المعركة التي يخوضها عدة آلاف من المقاتلين في غرفة عمليات مشتركة لجميع الفصائل العاملة في شمال غربي سوريا، بتوافق دولي وإقليمي حتى هذه اللحظة مع عدم وجود رد هستيري روسي في بدايات المعارك مقارنة مع السنوات السابقة التي كانت فيها سريعة وانتقامية من المدنيين، ثم بدأت طلعاتها اليوم في ريف إدلب الشرقي مخلفة قتلى وجرحى في صفوف المدنيين.
وجاءت العملية بعد ساعات قليلة من بدء سريان وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله في لبنان، في لفتة ذكية من الفصائل في الشمال السوري، ومنع الحزب الذي وقع على إنهاء قوته العسكرية في لبنان من نقلها إلى الشمال السوري.
ومن المرجح أن حزب الله ومن خلفه إيران كانوا يريدون أن يعيدوا تنظيم صفوف الميليشيات الرديفة لجيش النظام في سوريا عبر نشرهم في المناطق السورية البعيدة عن الحدود الإسرائيلية بأكثر من مسافة 30 كيلومتراً كما كانت تطالب إسرائيل منذ سنوات، إنما في محافظات حلب وإدلب ودير الزور بشكل أساسي.
وقالت "إدارة العمليات العسكرية لمعركة ردع العدوان" التي يديرها تحالف من فصائل مسلحة -في بيان أمس الأربعاء- إن قوات المعارضة سيطرت على الفوج 46، أكبر المواقع العسكرية لقوات النظام غربي حلب.
وحققت الفصائل تقدماً كبيراً خلال الساعات الماضية، حيث سيطرت على أكثر من 32 قرية ونقطة استراتيجية بمساحة 245 كيلومتراً مربعاً، واقتربت من مدينة حلب بمسافة 5 كيلومترات، وفق آخر التصريحات.
وشملت أبرز المناطق التي سيطرت عليها: الهوتة، أورم الكبرى، عينجارة، الفوج 46، وخان العسل وغيرها الكثير. حيث تعد هذه العملية أول اختراق لخطوط التماس منذ اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/ آذار 2020.
وواجهت قوات النظام السوري خسائر كبيرة في معارك "الفوج 46"، حيث قُتل أكثر من 15 ضابطاً وعنصراً وفق مصادر موالية للنظام.
كما أكدت إدارة العمليات العسكرية أن المناطق التي تمت السيطرة عليها أمس فقط، تمهد الطريق لعودة أكثر من 100 ألف مهجر إلى منازلهم وأراضيهم، مما يساهم في تخفيف المعاناة الإنسانية في شمال غربي سوريا.
حصري.. هادي العبد الله يدخل بلدة أورم الكبرى الاستراتيجية التي سيطرت عليها فصائل المعارضة خلال عملية "ردع العدوان"#تلفزيون_سوريا #يا_سامعين_الصوت #ردع_العدوان @HadiAlabdallah pic.twitter.com/ZmiuXpYh9b
— تلفزيون سوريا (@syr_television) November 28, 2024
ماذا يقول الضامن التركي؟
وفي استقراء للصحافة التركية، كان معظم الصحفيين الأتراك المطلعين على الملف السوري، يشيرون إلى أهمية هذه المعركة بالنسبة للمعارضة وتركيا، وإمكانية أن تكون حلب المدينة إحدى أهدافها.
وفي السياق، نقلت رويترز عن مصادر أمنية تركية أن عملية المعارضة السورية باتجاه حلب تقع ضمن حدود منطقة خفض التصعيد بإدلب التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في 2019.
وأضافت أن العملية المحدودة لفصائل المعارضة توسعت بعد أن غادرت قوات النظام السوري مواقعها. وأوضحت أن العملية جاءت عقب هجمات النظام على المنطقة.
من جانبه، قال مصدر أمني تركي كبير لميدل إيست آي، إن عملية "ردع العدوان" تهدف إلى استعادة سيطرة الفصائل على الجزء الشرقي من إدلب حتى الحدود المتفق عليها أصلاً بين تركيا وروسيا وإيران.
ويبدو أن تركيا تعيد تذكير كل من روسيا وإيران والنظام السوري بمناطق سيطرة المعارضة المسلحة السابقة والتي كانت تشمل مساحات كبيرة جداً، تشمل معظم محافظة إدلب وأجزاء واسعة من ريف حلب على الخطين الاستراتيجيين M4 وM5.
ويأتي الدعم التركي للعملية وإن لم يكن مباشراً حتى الآن، لقطع الطريق على قوات سوريا الديمقراطية وحرمانها من تحصيل أي مكاسب في حال تراجعت إيران أو انسحبت ميليشياتها من المنطقة.
وجاءت "ردع العدوان" بعد أيام قليلة من تصريحات حادة أطلقها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، أكّد فيها عدم رغبة رئيس النظام السوري بشار الأسد بتحقيق السلام في سوريا، مشدداً على عدم إمكانية مناقشة انسحاب قوات بلاده من سوريا "إلا بعد قبول دستور جديد وإجراء انتخابات حرة".
وقال فيدان في كلمة خلال مناقشة موازنة وزارة الخارجية لعام 2025 في البرلمان التركي، إنّ بلاده تتوقع بشكل أساسي إجراء تقييم الحوار الذي اقترحه الرئيس رجب طيب أردوغان "بنهج استراتيجي من قبل النظام السوري، وبنهج يعطي الأولوية لمصلحة الشعب السوري".
ورغم محاولات التطبيع الكثيرة التي طرحتها أنقرة خلال العام الماضي للنظام السوري، ودعوات أردوغان المتكررة لبشار الأسد، إلا أن الأخير رفض ذلك فيما يبدو بتعنت إيراني واضح، بدا جلياً من خلال الاستهداف المستمر من قبل الميليشيات التابعة للحرس الثوري ضد مناطق شمال غربي سوريا وما يحمله من إحراج مباشر للضامن التركي مع استهانة بالقواعد العسكرية التركية بالمنطقة.
ما الأهداف البعيدة؟
لا يمكن التكهن حتى الآن بكيفية سير العملية، ولكن استعادة فصائل المعارضة لكل تلك المساحات سيخلق خرائط جديدة لسوريا، والتي تحافظ على ألوانها الحالية منذ عام 2020 تقريباً ضمن خمس مناطق نفوذ رئيسية:
- مناطق سيطرة النظام السوري: تشمل معظم المحافظات السورية، حيث يسيطر النظام على نحو 63.38% من الأراضي، بدعم عسكري وأمني من روسيا وإيران، إلى جانب الميليشيات الأجنبية التي جلبها الحرس الثوري من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، مع ضرورة الإشارة إلى وجود حراك شعبي في السويداء مدعوم من فصائل مسلحة محلية أفقدت النظام جزءاً من تحكمه بالمنطقة مع الاستمرار بالسيطرة عليها.
- شمال شرقي سوريا: تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة بقواعد عسكرية أميركية، وتضم أجزاء من محافظات الحسكة والرقة ودير الزور.
- ريف حلب الشمالي: تحت سيطرة الجيش الوطني السوري والحكومة السورية المؤقتة، بدعم من القوات التركية، وتشمل مناطق مثل عفرين والباب وجرابلس واعزاز.
- إدلب وريفها في شمال غربي سوريا: تسيطر عليها هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، وتعد من أكبر مساحات سيطرة المعارضة في الشمال الغربي.
- منطقة التنف جنوب شرقي سوريا: تُدار من قبل فصائل الجيش الحر، وتحتوي على قاعدة أميركية استراتيجية على حدود العراق والأردن مع سوريا.
هذه التقسيمات التي تعكس توازن القوى الحالي في سوريا، مع احتفاظ كل طرف بمنطقته ونفوذه، في ظل وجود دعم خارجي مؤثر في تحديد ملامح السيطرة، قد تتغير كلياً في ظل العمليات الجديدة التي تقودها الفصائل في الشمال السوري بعد سلسلة غير منتهية من انتهاك وقف إطلاق النار والاعتداء على المدنيين بشكل شبه يومي.
وإن كان السؤال هل ستكمل غرفة إدارة العمليات إلى مركز مدينة حلب أو أي مدينة أخرى؟ لا يمكن معرفة الجواب إلا أن هذا الانهيار الدراماتيكي لقوات النظام في ريفي حلب الغربي وإدلب الشرقي تؤكد أن الفصائل مستمرة في قتالها إلى آخر حد ممكن، خصوصاً إن بقيت الكفة لصالحهم.
وظهر التفوق العسكري لصالح قوات المعارضة منذ اللحظات الأولى مع فرار قوات النظام والميليشيات التابعة لإيران، وسط سقوط عشرات القتلى والجرحى إلى جانب الأسرى الذين قبض عليهم.
كما أن إخفاء عامل المعركة مع هدوء الجبهات لعدة سنوات ساعد في إبقاء عامل المباغتة والمفاجئة سيدا للمشهد، حتى بالنسبة لكل المؤيدين للعملية، ثم جاء تساقط مناطق النفوذ لصالح الفصائل بما يشبه أحجار الدومينو.
كما أظهرت العملية، تكتيكاً عسكرياً وإعلامياً جديداً بالنسبة لفصائل المعارضة، حيث استخدمت مسيرات مفخخة مصنعة محلياً، وخاضت معارك ليلية، وسيطرت على عتاد عسكري شمل عشرات الدبابات والصواريخ الحرارية ومخازن الأسلحة الفردية.
تحجيم النفوذ الإيراني
ولا شك أن تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، بدا فرصة كبيرة بالنسبة للفصائل، حيث يبدو أن هناك اتفاقاً ضمنياً بخصوص ذلك في سوريا بشكل إجباري، بدأ مع وقف إطلاق النار في لبنان وتخلله قصف للمعابر السورية مع لبنان، ثم تلاه إخضاع الميليشيات الإيرانية التي أخذت قوة أكبر من حجمها، عبر استعادة حدود اتفاق أستانا مدخل حلب الغربي وبما يشمل ريف إدلب حتى مورك في ريف حماة.
وجاء ذلك بارزاً مع تأكيد مقـتل العميد في الحـرس الثـوري الإيـراني كيومرث بورهاشمي، في هجوم الفصائل في ريف حلب الغربي، بحسب وكالة "رويترز".
وقد يشمل التحرك العسكري أيضاً مواقع جنوبي سوريا في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة وحتى السويداء، خصوصاً مع دعم الفصائل في السويداء للعملية وتحذير قادة الحراك ومشايخ العقل بالمحافظة من مخاطر النفوذ الإيراني وحزب الله.
ومع تقويض قوة حزب الله في الشمال السوري ومنعه من التمدد بالمنطقة، ستكون السيطرة على مدينة حلب إن حصلت أكبر إنجاز عسكري للثورة السورية منذ عام 2016، حيث فقدت الثورة حينها زخم القوة الأساسي على وقع الضربات الجوية الروسية المدمرة الداعمة لجيش النظام والميليشيات الإيرانية على الأرض، والذي أدى لأكبر عملية تهجير قسري ونزوح في سوريا.
تملك حلب أهمية رمزية واقتصادية وجغرافية، ليس فقط بما يخص أوراق التفاوض وتحقيق الانتقال السياسي وفق مقررات مجلس الأمن 2254، إنما أيضاً كأكبر كتلة بشرية في سوريا.