تحولات لباس المرأة السورية.. من الملوّن إلى الأسود!

2021.04.09 | 06:58 دمشق

123228_2010_12_02_13_36_47.jpg
+A
حجم الخط
-A

     حين أحضر أحد أصدقائي المهاجرين عباءة سوداء خليجية، هدية لأمّه، في التسعينات من القرن الماضي، غالية الثمن، رفضت أمه ارتداءها قائلة: أنا لا أحبُّ اللون الأسود، إنه يذكرني بموت أغلى الناس، وأنا أريد أن أستمر بالحياة ولا أريد أن أُدْفنَ حية، صارت هذه الحكاية مضرب مثل في قريتنا!

هذه السردية تحمل مؤشرات لاختلاف سلطتين، أحدهما السلطة الشائعة التي تريد أن تفرض نمط لباسها، والأخرى سلطة الخيار الشخصي بما لا يتعارض مع أعراف المجتمع، وهي سلطة هامشية شرقياً، سماها السوسيولوجي الإيراني آصف بيات في كتابه "السياسة كحياة، كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط"، هؤلاء العاديون لهم في الغرب سلطة مركزية.

 تحولات ألوان لباس المرأة في الفضاء العام السوري له دلالات كثيرة، ذلك أن اللباس في أحد أدواره، يلبي حاجات الجسد من الدفء والحماية، وتقود اختيار اللباس عادات وتقاليد وموضات، وتلائم مقاساته وأشكاله عوامل المناخ وسواها، إضافة إلى دور مألوف للعرف الديني في اختيار اللباس، بخاصة ما يتعلق بالمرأة في شرائح اجتماعية عديدة ويشكل خرق سياقاته في أحد وجوهه احتجاجاً على السياق العام.

ونظراً لكون التعرف إلى دور الأعراف الدينية في الريف السوري ليس كما هو في المدن السورية، حيث للجماعة دورها في اختيار اللباس لفرض نموذجها وللتمايز عن الجماعات الأخرى، فقد بقي اللباس حتى ثمانينات القرن الماضي تقوده العادات والتقاليد والانسجام مع البيئة ومتطلباتها أكثر من أي عامل آخر، دعك من موضات الأقمشة التي كان يقودها تجار حلبيّون ماهرون يوزعون بضاعتهم في معظم الريف السوري (بخاصة الشرقي والشمالي ووسط سوريا)، معتمدين على طريقة الناس آنئذ في اختيار لباسهم، التي نادراً ما تعرف للباس الجاهز طريقاً، وقد كانوا يسمون لباسهم تبعاً للاسم الشائع، أو النجم المجتمعي، أو الحدث السياسي، ففي فترة "المدّ الصدَّامي" كان هناك قماش اسمه (قلم صدام) وفي فترة ظهور نجم كاظم الساهر وجد نوع قماش اسمه (الساهر) وكذلك أيام (علم دار) وقد انتشر نوع لباس أيام حافظ الأسد اسمه (بعد عيني يا حافظ) كنا نتندر على من تختاره بصفته علامة ولاء ومبايعة!

لو أخذنا منطقة الجزيرة والفرات مثلاً، فإنه من الصعب الحديث عن لباس فراتي موحد، ذلك أنه كلما أردتَ مقاربة موضوع يخص منطقة الفرات، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار عدداً من النقاط منها:

- الاختلاف الشاسع بين مراكز المدن المتمثلة في دير الزور والرقة والميادين والبوكمال، والريف المحيط بها، إضافة إلى أحوال البدو الذين استقروا في أطراف تلك المدن، وسميت الحارات باسمهم، وبقي جانب كبير من حياتهم تقوده عادات البداوة في اختيار اللباس وسواه.

- الأمر الآخر سرعة تبدل الظواهر وصولاً إلى مرحلة جديدة، وبالتالي من الصعب الحديث عن سمة خاصة بفترة محددة، ذلك أن توالي التغيرات في العقود الأخيرة كان سريعاً ومرتبطاً بسرعة تحولات الاقتصاد عالمياً.

 

     تتعدّد أسباب اختيار ألوان اللباس، إما أن تكون لإرضاء المجتمع، بكل تجلياته ومؤثراته، أو إرضاء الذات، أو من خلال خلط الدوافع وتهجينها، وعادة ما تلاحق المجتمعات المعيارية كل تفاصيل حياتك، تكدّر عليك أو تسقط ما تريده على مسار حياتك.

     هنا اليوم في هولندا، كلما رأيتُ مسناً هولندياً أو مسنة هولندية، على أعتاب التسعين عاماً ويلبس ألواناً "حادة" مثل الأحمر والأصفر والأخضر والبرتقالي، أتذكر نفسي قبل عقد من الزمن، حين كنتُ أستاذاً جامعياً اشتريت كنزة لونها أحمر، وقد حاولت أكثر من مرة أن ألبسها للذهاب إلى محاضراتي في كلية الآداب بجامعة دمشق، لكن الحَرج من تعليقات الطلاب وزملائي طبعاً منعني من لبسها، وعدم إشباع الحاجة في اختيار الألوان وفقاً لسلم الحاجات عند الإنسان بتعبير" ماسلو"، جعلني شخصاً مقبلاً على اختيار لبس بألوان غريبة وفقاً لمن هم حولي، لكن هذا الاختيار يسعدني، ولا يزعج الآخرين.

     من هنا فإن تجربة العيش بين مجتمعين: مجتمع كان يتحكم في كل تفاصيلك، ويحشر أنفه في كل خطوة من حياتك، ثم تعيش في مجتمع يترك لك حرية الخيار في كل تفاصيل حياتك تعدّ تجربة صعبة، وتحتاج إلى مزيد من القدرات العالية لتحقيق اندماج متوازن مع نمط الحياة الجديدة.

قبل انتشار أديان الفضائيات، وآثارها في المجتمع السوري ومحاولتها طرح نفسها كنموذج يجب اتباعه، كانت الألوان تملأ لباس الريف السوري، وهي أقرب للبيئة وأصدق في التعبير عن حاجات الناس.

 وفرضت داعش أسوأ نموذج لباس مرّ في تاريخ المجتمع السوري والتنظيمات المتطرفة الأخرى، لأنه قدم كجزء من الجانب العقدي والعبادي للدين، وما هو إلا جانب من جوانب فقه اليوميات المتغير تبعاً للعصور، مع التأكيد على أن جانب "الحشمة" هو من متطلبات اللباس المرتبط بالجذر الديني.

 

       وغيّب نظام الحكم في سوريا من قبل اللباس المحلي السوري، وجعل اللباس الأوروبي هو السائد بالنسبة للرجال، وكان من المألوف ألا يقبل أي لباس محلي في أي محفل رسمي سوري، وغدا الالتزام باللباس الرسمي علامة التزام بالقوانين والدولة والولاء!

اختيار الأزياء ارتبط بتحولات مفهوم القدوة في المجتمع السوري، كان ثمة صراع بين زيّين: الزي القديم حيث كان الآباء يقودوننا إليه، والزي الغربي، الذي يعتبر الالتزام به جزءاً من السير نحو المستقبل.

ويوم كان المدرس والمدرسة أهم قدوة في حياتنا فقد كان ما يلبسانه يؤثر في ذائقة اختيار اللباس، وبعد انتشار التديّن أصبح "الشيخ" أحد الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا قدوة في سلوكهم ولباسهم!

وبعد مركزية دور الإعلام بصحفه وتلفزيوناته صار نجومه هم القدوة، وكذلك النجم الرياضي، والممثل السينمائي أو التلفزيوني، أما في مرحلة وسائل التواصل الاجتماعي ونجوم الـ (شو) واليوتيوب فقد أصبح أولئك هم قدوة أطفالنا وشبابنا وصاروا موضع أحاديثهم اليومية!

 

قامت أجزاء من اللباس في الريف السوري بأدوار عديدة من مثل دور قطعة لباس كانت تدعى  بـ: (الزبُون) وهو رداء كانت تلبسه المرأة الريفية الفراتية، وهو ثوب مفتوح من الأمام يحمي منطقة الظهر بكُمين كاملين، الهدف الرئيسي منه أنه يتيح حماية منطقة الظهر ومؤخرة المرأة، وكإشارة إلى مزيد من الحشمة، وتجنيباً لإظهار تقاسيم جسدها من الخلف أمام عيون الرجال الغرباء.

النساء الأمهات حققن فيه مآرب أخرى، فكان يربط بعقدة أمام العنق ليصبح أشبه بحقيبة أو (بقجة) على الظهر تضع الأم طفلها الصغير حتى عُمر السنة أو أكثر فيه حين تذهب إلى زيارة، أو تمارس أعمالها المنزلية كي لا يبكي الطفل، وكي لا يشغلها عن عمل له وقت محدد أو لتحميه من عبث أخ صغير، أو حشرة تبحث عن أي شيء يسليها، أو حيوان عابر يتعثر بخطواته... وكانت حركة الأم إبان عملها خير (منوّم) لذلك الطفل الشقي (المكوّر) ، وقد تسهو أم وهي تحمل طفلها، فتُحَل العقدة نتيجة عدم الانتباه فيقع الطفل على الأرض!

من المهم الإشارة إلى أن طبيعة ذلك اللباس ومهام المرأة الريفية اليومية والظروف الاجتماعية كانت تمنع المرأة من ارتداء اللباس الضيق الذي يحدد ملامح جسدها، هذا كله قبل انتشار اللباس الداخلي الخاص بمنطقة صدر المرأة حيث بقيت عوائل كثيرة ونساء كثيرات يعتبرن ارتداءه شيئاً غير لائق اجتماعياً!!! لتتحول الأيام وتنقلب الدلالة ليُعدَّ عدم ارتداء ذلك الجزء من اللباس عيباً اجتماعياً في تحولات مفاهيمية تحفُّها حاجات اقتصادية ومعيارية وفكرية واقتصادية ودخول عالم الموضات...

كان الرجل القروي الثري يذهب إلى حلب في سبعينات القرن الماضي وثمانينياته ويحضر عدداً من "طابات" القماش بألوان مختلفة ليضعها في بيته وتفصّل منها نساء بيته والجارات أحياناً ما تشاء.

أما اللباس في معظم شرائح مراكز المدن الفراتية قبل أربعين عاماً أو أكثر لا يختلف كثيراً عن المدن الأخرى سوى بإضافة قطعة اللباس "العباية" التي كانت تلبس من النساء المتزوجات والعازبات، وللعباية السوداء تفاصيل كثيرة ترتبط بالعيب الاجتماعي والسِّتر والانتماء إلى عائلة معينة وسوى ذلك من تفاصيل لا حصر لها...وجاء انتشار "الكلابية النسائية" في ثمانينات القرن الماضي ليحمل معه أسماء ودلالات لا حدود لها.

نتيجة ولادتي بين تسع أخوات بنات، فقد كانت الألوان تملأ بيتنا، إضافة إلى أن والدي في خمسينيات القرن المنصرم وستينياته قد عمل فترة من الزمن في تجارة (الهَباري) بين سوريا والعراق خاصة الموصل، وكان رحيل الهباري عن عالم لباس رأس المرأة الفراتية إشارة إلى رحيل شيء عزيز عن عالم طفولتي، فبعيداً عن ألوانه، كانت طريقة ارتدائه وتعدّد أنواعه، وغلاء ثمن بعض أنواعه شيئاً قد أمدّ حياتي بحكايات كثيرة، كانت الأمهات يتفنن في طريقة وضعه على الرأس بصفته علامة أناقة وقد يرتبط بوضع أشياء أخرى من مثل قطع من الذهب وسوى ذلك..

حمل اللباس حمولات دلالية في تلك المناطق، فاللباس الأسود لمن مات قريب لها علامة وفاء يتم ارتداؤه مدة سنة على الأقل من قبل الدائرة الأولى من نساء العائلة، أو أكثر، وعدم ارتداء "العقال" للرجال لمن قتل منهم شخصا حتى يأخذوا بثأره كذلك علامة، أو لمن اعتدي على عرضه، إضافة إلى عادة شقّ أثواب النساء كعلامة من علامات الفجيعة، وهي كما يقال عادة جاهلية، والسؤال: كيف لأربعة عشر قرناً من وجود الإسلام لم تستطع أن تلغي تلك العادة، وكيف لم تستطع الإيديولوجية الدينية أن تلغي الإيديولوجية العشائرية أو ما قبل الدينية؟

إن الزيّ الذي يفرضه التاجر الحلبي المنفذ لسياسات مصانع القماش حتى التسعينات من القرن الماضي كان هو المتحكم فيما ينتشر في منطقة الفرات مثلاً، لكن بعد انتشار التلفزيون والإنترنت تحول كل شيء وتغير، وتعددت العوامل المؤثرة، إضافة إلى حضور أبرز لمركزية المدن في التحكم في الذوق السوري العام، وبقي مصطلح (ترييف المدن) نسبياً، فقد بقي معظم الريفيين السوريين أسرى لخيارات أبناء المدن في كثير  من تفاصيل حياتهم، في عودة لتفسير ابن خلدون الشهير في الحديث عن ثقافة الغالب والمغلوب!

أما اليوم فالكل أسرى لمركزية الموضة العالمية التي تفرض كثيرا من خياراتها على معظم أنحاء البشرية، وقد ترافق ذلك مع تغييب للباس المحلي وألوانه، وفرض ثقافة اللباس المسيطر الذي يستطيع أن يؤثر في الجمهور من خلال ثقافة الإبهار والصورة.

يحمل اللباس في سوريا دلالات عديدة حول الهويات الرئيسية والفرعية، سواء ما تعلق منه بغطاء الرأس أو اللباس الذي يغطي منطقة الجسم، ويمكن أن يكون مدخلاً للتعرف إلى الهويات الفرعية، وهذا ليس بمقتصر على سوريا، هاهنا في هولندا، يعلق أبناء أمستردام على لباس أبناء القرى و يميزونهم من طريقة لباسهم، مع أن ثقافة اللباس العام تبدو ضائعة، وواسعة الأطياف.

 وثمة ظاهرة غريبة هاهنا، لها علاقة بلباس "البالة"، إذ إنه ينتشر انتشاراً كبيراً، بل إن هناك كثيرين يعتزون بأنهم يلبسون جاكيتاً أو بنطالاً من عهد مضى، أو عمره مئة عام، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم اللباس المستعمل في سوريا، الذي يرتبط غالباً بالفقر والحاجة.

كلمات مفتاحية