تحطم أسطورة إمام الملحدين إسماعيل أدهم2/2

2019.08.02 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حرص إسماعيل أدهم في المقالات التي يكتبها وفي أغلفة الرسائل (الكتب) التي يطبعها على أن يعرّف نفسه بـ (دكتور في العلوم والفلسفة من موسكو، ودكتوراه فخرية في الآداب من لينينغراد وموسكو)، وكان أشد حرصاً في المقالات التي نشرها في مجلتي (الرسالة) و(المقتطف) حول النظرية النسبية على أن يشير إلى تجاربه الفيزيائية في المختبرات الروسية، وأن يحيلنا إلى دراساته المنشورة باللغة الروسية مع ذكر تواريخ النشر وأسماء المجلات التي كتبها وهو لم يتجاوز العشرين من عمره! وكان يتمتّع بذكاء الأفّاق وحِجى المدلّس، فيملأ مقالاته ورسائله بالعزو والاستشهاد، ليتجلى بصورة الأكاديمي الموثِّق المدقِّق المحقِّق، إلى أن جاء المستشرق الهولندي JYNBOLL; G. H. A وأثبت أنّ رواية أدهم عن الخمس وعشرين سنة الأولى من حياته ما هي إلا كذبة مَرَضية هدفها الرئيسي خلق سمعة لنفسه لم يكن قادراً على كسبها من دون اختلاقها.

اختار ينبول، في نهاية الستينات من القرن الماضي، دراسة عدة مسائل تتعلق بالحديث النبوي الشريف، وتتبّعَ المناقشات حولها في مصر الحديثة (موثوقية الحديث عند الإمام محمد عبده ومدرسة المنار ــ عدالة الرواة ــ عدالة أبي هريرة ــ انتقال الرواية ــ الإسرائيليات)، وخرج علينا سنة 1969 بكتاب عنوانه: The authenticity of the tradition literature. Discussions in modern Egypt، وقادته هذه الدراسة إلى معرفة إسماعيل أدهم، ثم إلى التفتيش وراءه، ثم إلى كتابة مقال حوله، في المجلة الرصينة Journal of Arabic Literature عدد 3 سنة 1972 عنوانه (إسماعيل أحمد أدهم الملحد)، وكان مقالاً يحمل هول المفاجأة بكل معانيها! فكشف لنا أنَّ إسماعيل أدهم

 الكتب الألمانية التي ادعى أنّه ألّفها حول الرياضيات والفيزياء وطبعها بالألمانية فهراء صراح، لأنّ دار النشر التي يسميها بـ (غوستاف فيشر في لايبزيغ) لا وجود لها في لايبزيغ.

لم يحصل على أية دكتوراة، ولم يصبح قط عضواً في أكاديمية العلوم الروسية، ولم ينشر كتباً أو مقالات باللغة الروسية أو الفرنسية أو الألمانية، ولم يؤلف على الإطلاق ذلك الكتاب عن تاريخ الإسلام بالتركية، ولم يقم، كما ادعى، صداقة مع المستشرق الروسي بارثون، لسبب بسيط هو أنّ هذا المستشرق توفي قبل عام واحد من ادعاء أدهم ذهابه إلى روسيا! أما التقريظ الذي تلقاه من المستشرق كازيميرسكي فمحض دجل واختلاق، لأنّه توفي قبل خمسين سنة من ولادة أدهم.

ويستمر أدهم في البرقلة حين يدعي أنّه عُرض عليه كرسي أستاذ في الفيزياء من قبل معهد التعليم العالي في أنقرة، فيخبرنا ينبول أن ذلك المعهد لم يكن موجوداً.

أما الكتب الألمانية التي ادعى أنّه ألّفها حول الرياضيات والفيزياء وطبعها بالألمانية فهراء صراح، لأنّ دار النشر التي يسميها بـ (غوستاف فيشر في لايبزيغ) لا وجود لها في لايبزيغ.

يتحدث أدهم كذلك عن جامعة فريبورغ السويسرية التي عهدت إليه بالإشراف على طباعة كتاب المستشرق سبرنجر حول حياة محمد ورسالته، علماً أنّ الكتاب طُبع منذ سنة 1869!!

ثم يتتبع ينبول نصه (من مصادر التاريخ الإسلامي) ويكشف أنّه كان مجرّد ناقل لأفكار جولدتسيهر، ولم يأت بأية آراء جديدة، ثم يبحث عن كيفية إطلاع أدهم على آراء جولدتسيهر وهو الذي لا يجيد اللغات الأوروبية، كما يؤكد ينبول، لا كما يدعي أدهم، ويرى أنّه اقتبسها من ترجمة مبكرة للغة التركية سنة 1915 بوساطة حسين كالتين.

كما يتناول مقالاته العلمية العديدة حول (نظرية النسبية الخصوصية)، و(الذرة وبناؤها الكهربائي)، و(الميكانيكيا الكلاسيكية)، التي تشير إلى معرفة أساسية بالعلوم اكتسبها من إسطنبول، لكنها لا تكشف عن أصالة فكرية جليّة، ولا عن قيمة علمية حقيقية.

أما المفاجأة أو بالأحرى الطامة التي يرمينا بها هذا المستشرق الهولندي فهو بحثه في كتاب (أبو شادي الشاعر) المكتوب والمطبوع بالإنكليزية، فيحكم بأنّ مؤلف الكتاب هو أحمد زكي أبو شادي نفسه منشئ مجلة أبولو، وجماعة أبولو الأدبية، الذي درس الطب في إنكلترا، وأتقن اللغة الإنكليزية، أما أدهم فلم يكن يجيدها فضلاً عن أن يتقن الكتابة فيها، ويتتبع ينبول دار النشر الأجنبية التي لا وجود لها، ويخلص إلى أنّ الكتاب طُبع في مطبعة التعاون في الإسكندرية، ووُضع اسم دار النشر الأجنبية زيادة في التمويه والاحتيال، ويزيدنا في الطنبور نغماً فيخبرنا أن الكتاب المنسوب إلى حسن صالح الجداوي عن أبو شادي ما هو إلا من تأليف أبو شادي كذلك، ويحيلنا هنا إلى الباحث كمال نشأت الذي كتب أطروحة دكتوراه عن (أبو شادي وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث) سنة 1965، وقّرر فيها أيضاً أنّ كتابي أدهم والجداوي هما من تأليف أبو شادي نفسه، (وسيتكرر هذا النحل مع إمام من أئمة الأدب الإسلامي في الفترة ذاتها، وسوف نتناوله، بعون الله، في سلسلة مقالات مستقلة قادمة).

تكشف لنا قصة إسماعيل أدهم خللين عظيمين لدى الدارس والمثقف العربي:

أولاً: الغفلة عن المنجز الغربي في نفس الموضوع الذي يتناوله دارسونا، وعدم الاستفادة منه، والتقصير في تتبّعه والتفتيش عنه.

فها هو الدكتور أحمد إبراهيم الهواري يجمع مقالات إسماعيل أدهم وأعماله بعد حوالي خمس عشرة سنة من نشر مقال ينبول، ويظل غاطساً في أوحال أسطورة أدهم، ثم يتناوله مرة أخرى سنة 1998 في كتاب مستقل بعنوان (إسماعيل أدهم ناقداً)، أي: بعد ربع قرن من هذا المقال، وهو ما زال في الغفلة التامة عنه! ولن يختلف عنه الباحث الدكتور عصمت نصار حين نشر كتابه (بين الإيمان والإلحاد: مناظرة بين فليكس فارس وإسماعيل أدهم) سنة 2005، وكتبت تقديماً له الأستاذة الدكتورة زينب محمود الخضيري. فهو لم يكتفِ بتكرار مفردات الأسطورة، بل قدّمها منظّمة مجلوة.

وها قد مضى حوالي نصف قرن على تعرية ذلك الاختلاق وما زلنا نعيد تقديم هذه الأسطورة جذلين منشرحين! فتخاطبنا شبكة الملحدين العرب: "هل تعرفون من هو أول عالم ذرة عربي؟ غالباً لا تعرفون. إنّه العالم المصري الملحد إسماعيل أدهم".

وتكتب ياسمين الخطيب مقالة مفتتِنة في الحوار المتمدن الأحد 23/يونيو/2013 تقول فيها: "تعالى [هكذا كُتبتْ] معي عزيزى القارئ نعرف من هو إسماعيل أحمد أدهم الذي كفر بالآلهة وبالحياة"، وتكرر جميع الخطل والدجل.

ويعيد، محتفياً، موقع الأوان من أجل ثقافة علمانية عقلانية في 8/ ديسمبر/ 2013 نشر رسالته (لماذا أنا ملحد) باعتباره من النصوص التأسيسية، بكل ما فيه من اختلاق وافتئات في سيرته الشخصية.

ونقرأ كذلك مقالاً طويلاً للكاتب المصري طلعت رضوان عن إسماعيل أدهم في موقع (الحوار المتمدن) سنة 2015 فيه من المبالغة والتعظيم والنفخ إلى حدّ أنّه يجعل التقدم الذي أحرزته تركيا إنّما كان بفضل جهود كمال أتاتورك، وكتابات إسماعيل أدهم وأجيال العلمانيين المتعاقبة، وأنّ مسيرة التراجع بدأت بعد انتشار الأحزاب الإسلامية التركية برعاية أمريكية.

أما الأنكى والأكثر إمعاناً في الإغراب وتتبع سمادير الخيالات فمطالبة الصحفي سامي النصف في مقال نشره في 21 /11 /2010 بجريدة (الأنباء) بالتحقيق في انتحار أدهم، وتخيّله أنّ جهةً استخبارية كانت وراء قتله، وليس انتحاره، فـ "في عام 1940 بدأ جمع كبار علماء الذرة في العالم للبدء في مشروع «منهاتن» الأميركي لصنع القنبلة النووية، وفي نفس العام كانت طائرات هتلر تغزو بريطانيا وقوات رومل تكتسح شمال إفريقيا وتدق أبواب الإسكندرية التي هجرها أهلها وانتقل إليها بالمقابل الدكتور الشاب إسماعيل أدهم ليستقبل كما قيل الجنرال رومل حال وصوله، وينتقل من هناك إلى برلين التي كان على تواصل معها للمشاركة في المشروع النووي النازي.

وفي العدد 366 من مجلة «الرسالة» المصرية الشهيرة الصادر في 8/7/1940 ينتقل د. أدهم من الكتابة الأدبية المعتادة إلى مقال احتل 4 صفحات مليء بالمعادلات الفيزيائية المعقدة والمعلومات العلمية سماه «الذرة وبناؤها الكهربائي» وقد كتبه الدكتور ـ لسوء حظه لربما ـ بالإنجليزي كذلك the electrical stracture of the atom ذكر ضمنه أن ما وصل إليه العالم الألماني «هينزنبرغ» قد أثبته هو في معامل البحث العلمي في موسكو قبله بسنوات، وأن ما أعلنه البروفيسور الروسي «سكوبلزن» عام 1938 ينسجم مع مبادئ الفيزياء الحديثة التي أثبتها د. أدهم عام 1933.

لم يمر على ذلك المقال «القاتل» إلا أيام قليلة حتى

أمة كاملة من الكتبة والمؤلفين يعيشون الأوهام ويصدّرونها باطمئنان الواثق، وغبطة المكتشف.

أعلن عن وفاة د. إسماعيل أحمد أدهم غرقاً على ساحل «جليم» بالإسكندرية، وهو لم يبلغ 29 عاماً..." إلخ.

ثم يقول: "إن عدم تسليط الضوء على مقتل أول عالم ذرة عربي قد تكون له أسباب عدة منها أن انتحاره أو قتله قد تم قبل 5 سنوات من إلقاء القنبلة الذرية على اليابان، لذا لم يعلم أحد في مصر أهمية علوم الذرة التي كتب عنها د. أدهم".

وهكذا نرى أمة كاملة من الكتبة والمؤلفين يعيشون الأوهام ويصدّرونها باطمئنان الواثق، وغبطة المكتشف.

ثانياً: من خلال تتبّعي معظم ما كُتب في موضوع أدهم إسماعيل فإنّني على يقين من أنّ غربان الشكوك في دعاوى إسماعيل أدهم كانت تنعب في أدمغة معظم أساطين الثقافة العربية من معاصريه، من أمثال: يعقوب الصراف، وإسماعيل مظهر، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وأحمد زكي أبو شادي، وجميل صدقي الزهاوي، وسلامة موسى، ومحمود تيمور، وحسن كامل الصيرفي، ومحمد أمين حسّونة، ولكنهم أسكتوا هذا النعيب وتجاهلوه، رغم جميع التصريحات والتلويحات والتلميحات التي جهر بها الشاعر محمود أحمد البطاح والأديب والشاعر والمسرحي بشر فارس، والأديب الناقد محمد عبد الغني حسن، وفي فترة لاحقة الناقد رجاء النقاش، فأعلن البطاح أن كتاب أبو شادي الشاعر ليس من كتابة أدهم، ولم يُطبع في لايبزيغ، فرد عليه أبو شادي، وأنكر أنه ألّف الكتاب عن نفسه، لكنه اعترف أن الكتاب طُبع في الإسكندرية، ومما يثير الدهشة، كما يورد ينبول، أن أدهم سينسى تصريح أبو شادي بعد عدة سنوات، وسيكتب رسالة إلى سامي الكيالي يخبره فيها أنّ كتابه عن أبو شادي طُبع في دار نشر غوستاف فيشر في لايبزيغ.

وكتب بشر فارس الحاصل على الدكتوراه من فرنسا عن رسالته (العِرض عند عرب الجاهلية)، وأمين سر المجمع العلمي بمصر، والحائز على جائزة أكاديمية الفنون الجميلة في باريس سلسلة مقالات في مجلة (الرسالة) ردّ فيها على أدهم في الأعداد: 314، 325، 330 من سنة 1939، وبرهن على ضعفه في اللغة الفرنسية، وكشف عن تدليسه في المراجع العلمية التي يذكرها، وأنّه يذكر أسماء كتب لا وجود لها!

وأما الشاعر والناقد محمد عبد الغني فنشر في مجلة (الرسالة) عدد 378 سنة 1940 مقالاً عنوانه (أسلوب أدهم في كتبه ومباحثه) فأطراه من جهة نقده الأدبي، واتباعه طريقة المستشرقين في توثيق المراجع، لكن انتقد أخطاءه اللغوية، وتكرار عباراته في المقال الواحد مما يشير إلى ضحالة أفكاره، ويخبرنا أنّه متيقن من ذهابه إلى تركيا لكنه في شك من ذهابه إلى موسكو.

وأما رجاء النقّاش فحدثنا عن (المنتحرون) في كتابه (تأملات في الإنسان)، وتناول في البداية أدهم وقال: "وقد حدّثني عدد من الأصدقاء الذين عاشوا في الإسكندرية وعرفوا إسماعيل أدهم أنّ القصة الحقيقية لهذا الشاب هي أنّه ابن لأسرة مصرية فقيرة من الإسكندرية، تعلم تعليماً محدوداً، وكان يمتاز بالذكاء الحاد [...] ولم يكن أدهم يملك غير ذكائه سلاحاً ليواجه به المجتمع، وكان الحل في نظره هو:

أن يكذب على المجتمع ويتظاهر أمام الناس! فأطلق ذقنه، وقال إنه مستشرق نال الدكتوراه من روسيا، وليس له بها علاقة من أي نوع. ومن أين يعرف للناس أن يعرفوا الحقيقة؟ إنّ مصر لم تكن على علاقة دبلوماسية مع روسيا حتى عام 1945. أي: بعد انتحار أدهم بخمس سنوات".

إن سكوت أولئك الأساطين عن شاب يسير كأنّه باخرة عملاقة من الادعاء والتنفّج، وعدم التفتيش وراءه، بل والدفاع عنه أمام من يحاول المسّ به يضعهم في مأزق حقيقي على صعيد الفكر والأخلاق، ويجعلنا نتساءل:

هل أخذ هؤلاء الأساطين كلام أدهم بالتسليم لأنّه قدّم الرِّشا لهم بالكتابة عنهم مدحاً وتنويهاً؟ إذ كتب عن: يعقوب الصراف، وإسماعيل مظهر، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وأحمد زكي أبو شادي، وجميل صدقي الزهاوي! فغدوا حريصين على تماسك صورته وعدم النكش وراء ادعاءاته وتبجحاته؟ وهل دَعَم هذا التغاضي جهره بما يتهامسون، وإعلانه ما يسرّون، فلم يكن من مصلحتهم تحطيمه ولا تبيين زيفه؟

 

الخلاصة:

الأَسْطرة مقسطة، ولكنّنا قاسطون. فكم من حبل قصير وصلناه، وكم من مؤسطَر وقف على جرف هار فأسندناه! وكم من متهالك أغضينا عنه، جهلاً أو كسلاً، سهواً أو قصداً!

كلمات مفتاحية