تحرير الشام.. مفتاح إدلب وقفلها

2018.08.27 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تنبع أهمية إدلب في المرحلة الراهنة من عمر التطورات المحلية والدولية المتواترة في الملف السوري، من ارتباطها بعدة ملفات حساسة، تجعل من تحديد مستقبلها، أساساً لواقع جديد قد يطول لسنوات، أو يردم لعقود أطول، في حين يبدو أن كل المخططات، تتصدر هيئة تحرير الشام- جبهة النصرة سابقاً- عناوينها العريضة، حتى إن بعضهم ذهب لرسم المعالم المستقبلية من هذه الزاوية فقط، إلا أن هذا ينافي الوقائع الميدانية والبازارات الدولية حولها.

روسيا، الفاعل الأكبر في الحدث السوري منذ تدخلها أواخر عام 2015 لإنعاش الأسد المحتضر، استخدمت ولا تزال شماعة مكافحة الإرهاب للاستيلاء على إدلب، وإيداعها في رصيد الأسد وفق النظريات العامة، ولكن على ما يبدو فإن موسكو، تريد أكثر من ذلك، ما يريده الكرملين من شمال سوريا، ليس إدلب فحسب، بل ربما هو ضم تركيا إلى معسكرها المضاد للمعسكر الأمريكي.

السياسة الروسية حول الشمال السوري، تختلف عن بقية السياسات التي اتبعتها موسكو في باقي مناطق خفض التصعيد المتفق عليها ضمن مسار أستانا، والاختلاف هنا ليس سببه سيطرة هيئة تحرير الشام على مفاصل الحياة في إدلب، وإنما يتمحور حول وجود شريك دولي، لا ترغب روسيا بالابتعاد عنه، خاصة أنه حليف في معسكر مضاد، وفي الوقت ذاته، لا يوجه الروس أولوياتهم لإعطاء تركيا الراحة المنشودة في ملف الشمال السوري، على اعتبار أن ذلك، يرفع من أسهم التأثير التركي في المعادلة السورية، وهذا ما لا تريد موسكو حصوله.

على ما أعتقده، فإن السياسة الروسية تحاول بشتى الطرق، الاستفادة من أي خلاف أمريكي تركي، بهدف إبعاد أنقرة عن الحلف المضاد للحلف الروسي، لمصلحة روسية بحتة تحوم حول السيطرة على الشرق الأوسط بالمجمل، إذ إن تركيا وإيران، تعتبران من أشد المتنافسين على زعامة المنطقة، جراء انحلال الأثر العربي بسواده الأعظم في صنع القرار، والاكتفاء بتنفيذ الإملاءات.

هيئة تحرير الشام، تعتبرها القوات الروسية مع الحليف الثنائي التابع لها "الأسد – إيران" مفتاح دخول إدلب، بذريعة مكافحة الإرهاب، ولكن روسيا، بكل تأكيد، لن تجازف بدخول إدلب عسكرياً، مالم تصل مع تركيا إلى تفاهم يجمل حالة المنطقة برمتها، فموسكو، التي ترغب بتجريد أنقرة من أي أوراق قوة في سوريا، لا ترغب في الوقت ذاته خسران تركيا، وربما فإن المقترح الأخير الذي قدمه الجانب الروسي للتركي، خير دليل على ذلك، بالإضافة إلى الجولات التفاوضية التفاهمية المكثفة بين الجانبين خلال الآونة الأخيرة.

كما أن موسكو، لا بد أنها تخشى من أي خيار عسكري كامل ترسمه لإدلب، دون الحصول على الموافقة التركية، لأن هذه الخطوة، ستكون بمثابة نعي حلف الضرورة الذي ولد بين الروس والأتراك خلال السنوات الماضية، ومن غير المستبعد أن يتحول هذا التحالف لتحالف أكثر تماسكاً في حال واصلت الولايات المتحدة الأمريكية سياستها السلبية تجاه العلاقة مع تركيا.

أي خيار عسكري روسي إيراني قد يطال إدلب، دون إعطاء تركيا، الضمانات التي تريدها، ستكون نتيجته حرب دموية، ربما تعرف شارة بدايتها، ولكنها أين ومتى وكيف ستنتهي، كلها أسئلة ستكون أجوبتها مجهولة، خاصة أننا نتحدث عن قوة عسكرية برية لا يستهان بها من قبل هيئة تحرير الشام، وكذلك عشرات الآلاف من المقاتلين المعتدلين المنتشرين في عموم الشمال السوري، ولتركيا عليهم كلمة عليا، لا يمكن للروس ولا للإيرانيين التعامي عنها، وخلاصة مجمل ما سبق، يمكن اختصاره بمعادلة تقول: روسيا تريد حسم مصير ومستقبل إدلب، سياسياً عبر البوابة التركية وليس من فوق جدرانها، وأن موسكو تريد أن تجعل من نفسها الحاكم الأعلى لسوريا، وتدفع بتركيا للقبول بهذه المعادلة، فيما يبدو بأن تركيا التي رفضت الإذعان للأمريكان وما تزال، ستقوم بالمسار ذاته مع الروس، ولعل المفاوضات واللقاءات المتبادلة بين الجانبين على أعلى المستويات خير دليل على ذلك.

تحرير الشام، مفتاح القوات الروسية لدخول محافظة إدلب، التي تضمن ملايين السوريين من أبناء المنطقة والمهجرين إليها، هي ذاتها- أي الهيئة تعتبر قفلا وصمام أمان لإدلب، في حال مضيها قدماً بتسهيل الحراك السياسي التركي لتجنيب المحافظة ويلات لا تحمد عقباها.

وهنا، لا بد من الإشارة للظهور الأخيرة لقائد الهيئة "الجولاني"، وحديثه بشكل علني عن عدم رفع سقف التوقعات بنقاط المراقبة التركية المنتشرة في شمال سوريا، فكلمات الجولاني، تدل على عدم رغبته وتشكيله الانحلال بأي صيغة ما، مقابل تجنيب المحافظة المحرقة التي تتوعدها روسيا، وكذلك ذكر المسؤولين الأتراك مؤخراً عدة عبارات ذات أهمية كبيرة، بضرورة مكافحة كل التنظيمات "الإرهابية" في سوريا.

على الصعيد التركي، فأنقرة على ما يبدو لا ترغب بخسارة ملف إدلب، وتعطيه أهمية جدية، وذلك لعدة اعتبارات تقيم لها تركيا وزناً وضرورات بعيدة الأمد ومتوسطة، ولعل أبرزها، هو فرض قوتها الدولية على الدول الكبرى "روسيا والولايات المتحدة"، وكذلك الحفاظ على الوجود العربي "السني" على حدودها، لمنع أي حركات مضادة مستقبلية من قبل القوات الكردية المدعومة من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، والذي من شأنه إحداث زعزعة في الداخل التركي، ويمثل تهديداً لأمنها القومي العام.

كما أن تركيا، لا ترغب في مواجهة هيئة تحرير الشام في الوقت الراهن عبر الطرق العسكرية المباشرة لقواتها، ولا حتى بدفع قوى محلية لفعل ذلك في الوقت الراهن على أقل تقدير، فهي ترغب بالحصول على ضمانات عبر صفقات ثنائية وأكبر، تخولها التخلص من الهيئة دون حصول أي تأثر سلبي على المشروع البعيد الذي ترسمه لعودتها إلى المشهد العالمي بشكل عام، والشرق أوسطي على وجه التحديد، خاصة مع وجود منافس إقليمي يتربص بانتزاع تلك الورقة من يد الأتراك، ألا وهم الفرس- إيران بمسماها المصغر.

من غير المستبعد، كذلك أن تقوم تركيا عبر فصائل المعارضة السورية المسلحة بدخول إدلب بالقوة، في حال رفضت هيئة تحرير الشام، الحلول السياسية، والتي لربما ستكون عناوينها العريضة، حل الهيئة تدريجياً وتسليم إدلب، أيضاً على مراحل للجبهة الوطنية للتحرير المدعومة من أنقرة وكذلك الائتلاف المعارض عبر حكومته المؤقتة.

وأنقرة، التي تستضيف ملايين السوريين على أراضيها منذ أعوام، لا ترغب في المرحلة الحالية، بتوافد عشرات الآلاف من السوريين نحو داخلها، في حال كان الخيار العسكري الحاسم، هو من سيرسم معالم محافظة إدلب، ناهيكم أن المصلحة التركي تقتضي بتثبيت العرب السوريين على حدودها، بدلاً عن تهجيرهم، وحضور المنافس الإيراني للمشهد عوضاً عنهم.

ولكن، إذا ما زادت واشنطن من ضغوطها وحربها الاقتصادية على تركيا، فمن غير المستبعد أن تقوم أنقرة في نهاية المطاف بتسليم محافظة إدلب للروس، مقابل الحصول على دعم روسي لمواجهة المعسكر الأمريكي، الذي يبدو بأنه يريد ويرغب بإضعاف القوة التركية، ومعاقبتها جراء رفضها الانصياع للحلف الغربي، واختيارها فتح مسارات نحو المعسكر الروسي المضاد.