تحب السياسة أم تكرهها؟

2022.08.06 | 04:50 دمشق

تحب السياسة أم تكرهها؟
+A
حجم الخط
-A

كثيرا ما تصادف سوريين يقولون لك إنهم يكرهون السياسة، وإن السياسة كلها كذب ومصالح ودسائس، بل يزيدون بأنهم قرروا تطليق السياسة والاتجاه إلى حياتهم الشخصية، على اعتبار أن الاهتمام بالسياسة جهد لا طائل منه هذه الأيام. هذا المقال مناقشة سريعة حول كيفية تشكل مواقف السوريين من السياسة في هذه الأوقات العصيبة، كما أنها تجادل بأن مصير السوريين مرهون بموقفه من السياسة.

على الرغم من ترديد إبراهام لنكولن "السياسة تهم جميع الناس"، ولا عذر لمن لا يأخذها على محمل الجد طوال حياته، إلا أننا نجد أن السياسة اليوم، بالنسبة لمعظم السوريين، تحتل مرتبة متدنية على مقياس الفائدة. وتعود قضية تنفير السوريين من أمور السياسة، أو حتى تخويفهم منها وعدها أمرا لا جدوى منه أو مرتبطاً بالكذب والدجل، إلا أن النظام الأسدي/ البعثي كان يعتبر أحد صمامات أمانه هو إبعاد السوريين عن السياسة، ولذلك نجده ألغى الأحزاب السياسية ومنع الصحافة واستأثر بثلثي مقاعد مجلس الشعب والنقابات.

هكذا تحول العمل السياسي إلى أمر لا جدوى منه ولا يمكنه الخروج عن عباءة النظام الأسدي، وإلا فالسجون في المرصاد لمن تسول له نفسه غير ذلك. المشكلة أن هذا التصور السلبي للسياسة عاد للظهور بعد أن تعرضت الثورة لخيبات أمل كبيرة، وازدياد معاناة السوريين سواء من قبل قيادات المعارضة المترهلة أو من القوى الدولية.

لو كانت السياسة لعبة دول ومؤامرات لما اندلعت الثورة السورية من أصلها. وأن قرار الثورة كان قرار السوريين على الرغم من إدراكهم لصعوبات مثل هكذا قرار

المشكلة في مثل هكذا تصورات سلبية للسياسة، والعمل بها، يعود إلى أن السوري يتعود على التفكير بنفسه بوصفة موضوعا للسياسة وليس بوصفه فاعلا في السياسة، وهناك فرق كبير بين التصورين. الأول يجعل الناس تعتقد أنه ليس لهم دور كبير في الحياة السياسة وأن السياسة لعبة أكبر منهم، في حين أن التصور الثاني يجعل الناس تعتقد أن لها دورا كبيرا في مصيرها السياسي، وأن عليها أن تتحمل أعباء السياسة لأنها لا يمكن أن تتنازل وتترك مصيرها للآخرين. لو كانت السياسة لعبة دول ومؤامرات لما اندلعت الثورة السورية من أصلها. وأن قرار الثورة كان قرار السوريين على الرغم من إدراكهم لصعوبات مثل هكذا قرار.

تقول الدراسات المعاصرة في الثقافة السياسية إن من يعتقد عدم أهمية السياسة ولا يطور معارفه السياسة، ومتابعاته لتدفق الأحداث والتداعيات السياسية، سيكون تأثيره "ضئيلاً" على السياسات؛ أي سيتحول إلى شخص بلا قيمة في عالم السياسة. وفي هذه الحالة سيكتفي بالردح السياسي، والعزف على المظلومية ونظريات المؤامرة، وهي مخارج سهلة لكل من يريد أن يترك كل شيء ويتفرغ لنفسه وحياته الشخصية، لا سيما وأن مثل تلك الطرق في التفكير تبرئ النفس من كل آثام السياسة وتحمّل الآخرين مسؤولية كل ما يحصل.

المظلوميات ونظريات المؤامرة التي تنتشر انتشار النار في الهشيم بين السوريين هذه الأيام ليست أكثر من تبرير مبطن لترك السياسة، ونقل السياسة من مجال الفعل والعقل والمصالح إلى مجال العواطف والانفعالات العدمية، إن لم نقل إنها تحول للسياسة إلى مجال للتنفيس النفسي وإثارة الأحقاد.

أكثر الأطراف التي ترتاح لارتفاع مستوى التفكير السياسي عبر المظلوميات والمؤامرات هي: النظام الأسدي من جهة، والائتلاف السوري ومن يدور في فلكه من جهة ثانية، والدعاة الإسلاميون من جهة ثالثة. ولذلك تجد هذه الأطراف الثلاثة أكثر من يستخدم هذه الطريقة في التفكير ويحث مناصريه عليها. أما سبب انتشارها، بحسب علم النفس السياسي، فيعود إلى أنها وسيلة سهلة: أولا لتقديم الحلول دون القيام بأي شيء على أرض الواقع (حلول مجانية)، وثانيا لأنها تبرئ الأطراف الثلاثة من المصائب التي حلت على السوريين، وثالثا لأنها تسهل سيطرة كل طرف من تلك الأطراف على مناصريه.

المشكلة التي تطرحها دراسات الثقافة السياسة اليوم أن على الشعوب أن تؤمن بدرجة معقولة بنفسها أولا وبالحرية كقيمة أساسية للعمل في المجال السياسي، ومن دون ذلك سيتعثر سيرها في طرقها للحصول على حقوقها وكرامتها. وتاريخ السياسة يشير إلى أن للشعوب دوراً أقوى مما يعتقد علم السياسة، وأن الأفكار والقيم من دون أناس تحملها على كتفها ستبقى مجرد كلام وأحلام، وهذا هو الفرق بين من تمكن من بناء نفسه ومستقبله وبين من تعب في منتصف الطريق فقرر التوقف.

ما نريد قوله في النهاية أن تصور الواقع السياسي بأنه من بناء الآخرين فقط هو تصور لن يؤدي إلا إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء عن طريق المظلومية ونظريات المؤامرة، من دون أن يعني ذلك أن الواقع لم يصل إلى درجات قياسية من التعقيد واللاإنسانية.

تمكن السوريون من الانتفاضة على هذه الأساطير السياسية ودوسها بأقدامهم لأنهم آمنوا بأنفسهم وبكرامتهم وبدورهم، وهو أمر لا يمكنهم التخلي عنه في منتصف الطريق

لقد سعى النظام الأسدي خلال أكثر من نصف قرن إلى إرباك السوريين بمجموعة من " الأساطير السياسية" من قبيل: الشعب السوري غير مستعد للديمقراطية، والفساد من الشعب وليس من الرئيس والقصر الجمهوري، وكما تكونوا يولى عليكم، والرئيس جيد ولكن المشكلة في الحاشية، وأن النظام الأسدي هو نفسه الدولة والوطن. وقد تمكن السوريون من الانتفاضة على هذه الأساطير السياسية ودوسها بأقدامهم لأنهم آمنوا بأنفسهم وبكرامتهم وبدورهم، وهو أمر لا يمكنهم التخلي عنه في منتصف الطريق، هذا الطريق الذي يزداد وعورة وقهرا في كل يوم، ولكن لا بد مما ليس منه بد.