تجليات علمائنا المتعددة في اللغات المختلفة

2020.04.03 | 00:09 دمشق

whatsapp_image_2020-04-02_at_10.28.02_pm.jpeg
+A
حجم الخط
-A

من الظواهر التراثية التي تستحق البحث والدراسة، والتي لم يُتنبّه لها أو يُتطرق إليها، بحسب اطلاعي حتى الآن، تجلي بعض الشخصيات العلمية أو الفكرية في العوالم اللغوية المختلفة بتجليات متعددة، وفي بعض الأحيان بأسماء مختلفة، ويدخل هذا البحث في إطار ما يُعرف بعلم (الإناسة اللغوية).

وتعدّد التجليات للشخصية الواحدة يعني اختلاف منزلتها ومكانتها وأهميتها وتقييمها وطريقة التعاطي معها، والاستفادة منها ما بين لغة وأخرى، ولعل الأمثلة الآتية ستفي بغرض الشرح والتبيين.

ففي اللغة العربية نعرف أبا الفتوح أحمد الغزالي عندما نقرأ سيرة حياة الإمام أبي حامد الغزالي، ونقرأ أنّ له أخاً يصغره بسنتين أو ثلاث يُدعى أحمد، وأنه كان من المتصوفة، ودرّس في المدرسة النظامية بديلاً عن أخيه أبي حامد حين ترك التدريس فيها، ولولا شهرة أبي حامد ربما لم نكن لنسمع به، على الرغم من ورود ذكره في كتب التراجم والتواريخ، كما وصفه السمعاني: "كان مليح الوعظ، حلو الكلام، حسن المنظر"، أو ابن الجوزي الذي لم يره إلا متصوفاً متزهداً متفوّهاً، "له نكت لطيفة إلا أن الغالب على كلامه التخليط ورواية الأحاديث الموضوعة والحكايات الفارغة والمعاني الفاسدة".

ولكن هذا التجلي الضعيف الباهت في اللغة العربية ينقلب إلى الضد في اللغة الفارسية، فيُعلى شأنه، وتُرفع مكانته إلى سدة الريادة، فهو أول من قدّم عملاً مستقلاً عن الحب باللغة الفارسية، في كتابه (سوانح العشاق)! هذا الكتاب الذي قال عنه هيلموت ريتر: "إنه لمن الصعوبة بمكان أن نجد كتاباً يبلغ فيه التحليل النفسي مثل هذه الغزارة"، ولكن أثر أحمد الغزالي لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى مكانة أسمى وأرقى وأخطر، فهو من أهم مؤسسي الشعر الفارسي الصوفي! ويتحدث نقاد الأدب الفارسي عن أحمد الغزالي بوصفه الملهم لفريد الدين العطار في (منطق الطير)، وسعدي شيرازي في (كلستان)، وحافظ شيرازي في (ديوانه)، وفخر الدين العراقي في (لمعاته). فتجليه في اللغة الفارسية يتمثّل في كونه من أهم مصادر إلهام الشعراء الصوفيين اللاحقين الذين اقتبسوا من رباعياته الشعرية الفارسية الرموزَ والتشبيهات والصور الشعرية، وهو يتحدث عن رومانسية الحب، ولهيب العاطفة، وفتنة الحسن، وسحر الجمال، وضراوة المعاناة والألم.

هذا التجلي الضعيف الباهت في اللغة العربية ينقلب إلى الضد في اللغة الفارسية، فيُعلى شأنه، وتُرفع مكانته إلى سدة الريادة

أما مصطفى بن عبد الله (1017هـ/1609م ــ 1078هـ/1657م) فقد عُرف في اللغة العربية بلقب حاجي خليفة، واشتُهر بكونه أهم بيبلوغرافي عرفته اللغة العربية من خلال كتابه الشهير (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون)، الذي ضمّ بين دفتيه التعريف بأكثر من 15000 كتاب عربي وفارسي وتركي، لكن الغالبية العظمى كانت للعناوين العربية، وذكر فيه حوالي 9500 مؤلف، و300 علم وفن، وقد بدأ المستشرق الألماني غوستاف فلوغل بطباعته سنة 1835 وانتهى منه سنة 1858، وصدر في سبعة مجلدات، وقد أثبت على غلافه اسم مؤلفه حاجي خليفة، وعن هذه الطبعة قامت مطبعة بولاق في القاهرة بطباعة الكتاب في السنة نفسها 1858، وأثبتت على الغلاف اسم المؤلف كاتب جلبي. ولا عجب في ذلك فقد اختار القائمون على طباعة الكتاب أن يستخدموا اسم كاتب جلبي، وأكبر ظني أن الهدف من ذلك هو لتسويق الكتاب في تركيا العثمانية، حيث إن شهرة مصطفى بن عبد الله في تركيا كانت كاتب جلبي، وفي تلك الأثناء لم يكن هذا البيبلوغرافي العظيم مشتهراً بهذه الصفة في تركيا، وإنما عُرف واشتُهر بكونه جغرافياً بل أشهر جغرافيي عصره، لأنه ألف باللغة العثمانية كتاب (جهان نما)، وهو أول كتاب جغرافي شامل في تاريخ الدولة العثمانية ينتقل من النظرة الجغرافية الكلاسيكية المشرقية في القرون الوسطى إلى النظرة الحديثة التي تراعي المكتشفات الأوروبية وتستفيد من أطالسها، وكما نعلم فإن الهنغاري إبراهيم أدخل المطبعة إلى إسطنبول سنة 1140 هـ/1728، وقد طبع كتاب (جهان نما) سنة 1145 هـ/1732، وكان ترتيبه الحادي عشر في تاريخ الكتب المطبوعة في إسطنبول، ولسنا هنا في صدد تتبع بقية أعمال حاجي خليفة أو كاتب جلبي سواء باللغة العربية أو التركية، إذ يكفينا هنا أننا دلّلنا على فكرتنا كيف أنّ المرء يتجلى في اللغات المختلفة بتجليات متعددة وبأسماء مختلفة في هذه المرة أيضاً.

على أننا سنقع على مفارقة هي أشد وأدهى مع شخصية عثمانية أخرى هي الفقيه الحنفي ابن قاضي سماونة (ت: 823 هـ/ 1420م)، وقد عُرف في اللغة العربية على شكل واسع لدى طلبة العلم الشرعي بعد طباعة كتابه (جامع الفصولين) في المطبعة الكبرى الميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1300 هجرية، الموافقة لـ 1882 ميلادية. وورد على غلاف الكتاب ما يلي: "جامع الفصولين لقدوة الأمة وعلم الأئمة شيخ الإسلام ومرجع الفقهاء الأعلام الإمام الفيصل الجليل محمود بن إسرائيل الشهير بابن قاضي سماونة قدس الله روحه ونوّر ضريحه ونفع بعلومه المسلمين"، وكان هذا التعريف هو التجلي الذي ظهرت به هذه الشخصية، وقد أخذ هذا الكتاب مكانةً مرموقة في الفقه الحنفي، حتى إن الموسوعة الفقهية الكويتية وهي أضخم موسوعة فقهية محكمة ومتقنة كان تستشهد به في أكثر من موضع. وقد قدمت ترجمةً لمؤلفه في جزئها الحادي عشر، هي الصورة التي نعرفها عنه، إلى ما قبل ظهور النت والثورة المعرفة، أنقل نصها بحذافيرها:

"هو محمود بن إسرائيل بن عبد العزيز، بدر الدين، الشهير بابن قاضي سماوة، نسبة إلى (سماوة) قلعة من بلاد الروم، ولد بها حين كان أبوه قاضياً فيها. وفي كشف الظنون ومفتاح السعادة والأعلام (ابن قاضي سماونة) نسبة إلى قلعة (سماونة) في سنجق كوتاهيه بتركيا. فقيه، حنفي، قاض. أخذ عن السيد الشريف بمصر، وبرع في جميع العلوم. من تصانيفه: "جامع الفصولين"، و"لطائف الإشارات"، كلاهما في فروع الحنفية، و"التسهيل"، و"عنقود الجوهر".

لكننا في اللغة التركية نكتشف جانباً آخر عنه مختلفاً كل الاختلاف، فهو أولاً يُعرف باسم الشيخ بدر الدين، وليس بابن قاضي سماونة، ويُتناول بوصفه صوفياً صاحب كتاب (واردات)، وليس فقيهاً صاحب (جامع الفصولين)، أما التجلي الأهم الذي يُعرف من خلاله في اللغة التركية فهو أنه قائد أهم ثورة في تاريخ الدولة العثمانية. ويمكن أن نوجز صورة الشيخ بدر الدين في اللغة التركية كما يلي:

1 ــ قام بثورة تصدّرت أهم الحركات الدينية الاجتماعية على امتداد التاريخ العثماني.

2 ــ قامت ثورته على فكر مهدوي ومذهب تلفيقي خلط بين الأديان الثلاثة، ودعوة للملكية العامة، وقد دعم ثورته الإقطاعيون المسيحيون، ثم تخلوا عنه عندما وعدتهم الدولة بإرجاع أراضيهم المصادرة إليهم.

3 ــ زعم أنه أمير من سلالة سلجوقية، وأنه ثار للاستيلاء على مقاليد السلطنة العثمانية، فأصدر بذلك فتوى قتله بيده.

4 ــ وبعد شنقه ظل له أتباع يُعرفون بـ (أتباع بدر الدين)، وهم أنفسهم العلويون القزلباش المنتسبون لما يُعرف بـ (أوجاق بدر الدين).

ويرى الأستاذ الدكتور أحمد يشار أوجاق أن "بعض المحافل الإيديولوجية في تركيا ولا سيما في الستينيات والسبعينيات حاولت الحديث من جديد عن تلك الحركة بغية العثور على مرتكزات تاريخية تستند إليها تلك المحافل، فكان أن شوّهت تلك الحركة إلى حدّ بعيد بسبب هذا العبث الإيديولوجي"، ويرى كذلك أنها "ما زالت إلى اليوم تفتقر إلى الدراسة الوافية التي تعتمد المنهج العلمي الموضوعي". وحقيقة إنّ الاهتمام بالشيخ بدر الدين يرتد إلى فترة سابقة على الستينيات والسبعينيات، فقد قام الشاعر اليساري ناظم حكمت بنظم ملحمة شعرية عن الشيخ سنة 1936، وقد تُرجمت هذه الملحمة إلى اللغة العربية سنة 1979، وطُبعت في دار الفارابي بترجمة فاضل لقمان، تحت عنوان: "ملحمة الشيخ بدر الدين ابن قاضي سماونة أول قائد ثورة اجتماعية فلاحية في تاريخ البشرية. شنق في مدينة سيرز عام 1420".

نكتفي بذكر هذه الأمثلة، علماً أن في جعبتنا أمثلة أخرى عديدة مهمة، ولكن المجال لا يتسع للإفاضة في ذكرها، وما قدّمناه ههنا يسهم في تطبيق نظريات التلقي والإنتاج المعرفي على مجال الحضارة الإسلامية التي شهدت شخصيات عابرة للثقافات واللغات، وشهدت كذلك شخصيات إسلامية أخرى كان لها حضور هائل في نطاق لغوي قومي محدد، ولكنها لم تُعرف ألبتة في النطاقات اللغوية الأخرى، أو عُرفت بشكل أكثر اختزالاً واقتضاباً.