تجربة ثورة وحكاية انتفاضة ودروس متبادلة من سوريا إلى لبنان

2019.12.25 | 19:46 دمشق

3537462919-crop.jpg
+A
حجم الخط
-A

إلى حدّ بعيد، تشابهت طريقة تعامل حزب الله كممثل للسلطة في لبنان والحفاظ على التركيبة القائمة، مع طريقة تعامله إلى جانب النظام السوري في قمع الثورة السورية. لم تكن الأحداث اللبنانية الأخيرة بعيدة الشبه عما يجري في العراق، في اعتماد الأسلوب نفسه في قمع التحركات والاحتجاجات من قبل الميليشيات الإيرانية، وهذا يوضح عقلية المنظومة وآلية تفكيرها وعملها. استخدام لعبة الترهيب المعنوي والأمني والسياسي والعسكري، للإجهاز على أي تحرك يريد إحراز تقدم في مسارات المجتمع.

كانت اللعبة في لبنان مستنسخة عن طريقة التعامل مع الثورة السورية، ولكن بمنسوب عنفي أقل، وبدون اللجوء إلى الحلول العسكرية، لأنه في الأساس القوى المستحكمة بالقرار وبالشارع المضاد للانتفاضة، لم يكن بحاجة لتطوير عدائيته إلى هذا الحدّ من إسالة الدماء، فكان تعامله من الانتفاضة اللبنانية أسهل من تعاطيه مع الثورة السورية. ولكن بنفس الأسلوب، تخوين المجموعات المدنية، تحقيق الشرخ الاجتماعي على أساس مذهبي وطائفي، وفق معادلة إنزال شارع مقابل شارع، وتعزيز السعار المذهبي كمثل اعتماد هتاف "شيعة شيعة شيعة" في مواجهة متظاهرين يطالبون بأدنى حقوقهم. ووصل الأمر إلى حدّ إيقاظ الفتنة المذهبية بين السنة والشيعة، في طريقة مشابهة للتفجيرات التي كان ينصبها النظام السوري في مناطق حساسة لتخويف الناس من الإرهاب والاستهداف ودفعهم إلى الابتعاد عن التحركات واللجوء إليه بوصفه حامياً للاستقرار.

آلية التعامل هذه تهدف إلى تسييس أي تحرك، وإغراقه في أتون مذهبي يقضي على أي إمكانية لتقدم قابل لإحرازها. وهو السلاح الوحيد، لمواجهة هذا المدّ الشعبي الرافض لما كان مكرساً من قبل هذه الأنظمة وأسيادها، مقابل تغييب أي قضية اقتصادية واجتماعية، لأن هذا النوع من الأنظمة لا يعيش إلا على الشرذمة على أساس عصبي، لتغييب المطالب التي تجمع البيئات الاجتماعية المختلفة. يغيب عن بال هذه الأنظمة أن هذه القضايا لا تُدفن حتى وإن أخمدت مرحلياً.

هذا التشابه في آلية التعاطي لقمع الانتفاضات يقابله ترابط في أحوال الدول الخاضعة "للسيطرة" الإيرانية، فالحال نفسه بالنسبة إلى السوريين واللبنانيين والعراقيين وحتى الإيرانيين، وإن باختلاف منسوب العنف والإجرام على مرأى من المجتمع الدولي. والتشابه في إخماد الانتفاضات يقابله تشابه أيضاً في الانتفاض مجدداً على الأسباب الرئيسية التي لم يتم معالجتها أو تغييب همومها بالذرائع الأمنية والعسكرية والمذهبية. فمثلاً بعد ما يعتبره النظام السوري انتهاء للمعارك في سوريا، ثمة تحديات جديدة من نوع آخر ستفرض نفسها، وهي غير قابلة للموت لا بل عنصر جمع بين مختلف مكونات المجتمع السوري، التي تريد القتال في سبيل تحسين ظروف العيش بالحد الأدنى.

هذا التشابه في آلية التعاطي لقمع الانتفاضات يقابله ترابط في أحوال الدول الخاضعة "للسيطرة" الإيرانية، فالحال نفسه بالنسبة إلى السوريين واللبنانيين والعراقيين وحتى الإيرانيين، وإن باختلاف منسوب العنف والإجرام

وكما تأثر لبنان بتداعيات الثورة السورية، فالواقع السوري اليوم يتأثر بالضيق المالي والاقتصادي الذي يعيشه لبنان، الذي عندما انقطعت شرايين إمداده، تفاقمت المشكلة في سوريا، ما يعني أن لبنان لم يكن فقط يشكل دعماً عسكرياً للنظام السوري، بل كان الشريان الحيوي اقتصادياً ومالياً. وما يجري في لبنان مرشح ليحصل في سوريا مجدداً، ما سيدفع إلى احتجاجات ذات طابع معيشي وليس سياسي فقط، على قاعدة الاستفادة من التجربتين اللبنانية والعراقية، وإعادة برمجة الثورة السورية، على إيقاع جديد، عنوانه الوضع الاقتصادي والاجتماعي وطبعاً السياسي.

ما يجري على صعيد المنطقة، هو مرحلة جديدة من رسم خرائط النفوذ التي تحولت من الحرب على داعش والإرهاب، والتي كانت تحظى بإجماع دولي. إلى مرحلة ما بعد داعش والصراع الدولي على التحاصص والتأثير بالقرار على الجغرافيا السورية. من الواضح أن القدرة الأميركية على الرغم من السيطرة الروسية المباشرة على سوريا، هي وحدها التي تتحكم بالمسارات، وليس إقرار "قانون قيصر" إلا مؤشر على ذلك، يدل على أن التغيير في سوريا سيكون أمراً لا مفر منه على مستوى النظام، لأن أي عملية إعادة إعمار أو بناء تتطلب موافقة أميركية، ما يضع روسيا وإيران أمام مأزق الاستنزاف والوهن، أو سيكون عليهما الذهاب إلى الاقتناع بضرورة تغيير النظام.

ففي السابق، كان الانقسام هو بين موالين للنظام ومعارضين له، اليوم يزداد التشظي، ويصيب مجموعات تابعة وموالية للنظام هي اكبر المتضررين مما يجري، مقابل مجموعات موالية أيضاً من أكبر المستفيدين. لا سيما في ظل انسداد الأفق أمام النظام السوري لإعادة ترتيب أوضاعه وأوضاع مؤسساته والناس. ما يدفع بالشعب السوري من مختلف شرائحه إلى إيجاد قواسم مشتركة لمواجهة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وأي حراك من هذا النوع سيعيد سوريا إلى مسرح الاهتمام العالمي والدولي، وهذا وحده سيضع الأسد مجدداً على طاولة البحث ومشرحة المجتمع الدولي، وسط قناعة راسخة بأن لا قيامة لسوريا في ظل بقاء الأسد.

الارتباط السوري بلبنان والعراق، ومدى التأثير والتأثر الواضحين، سيؤديان حتماً إلى خرق خطوط التماس الاجتماعية التي كانت قائمة على نزعة سياسية مذهبية، بالارتكاز على تواصل معيشي ومطلبي

الارتباط السوري بلبنان والعراق، ومدى التأثير والتأثر الواضحين، سيؤديان حتماً إلى خرق خطوط التماس الاجتماعية التي كانت قائمة على نزعة سياسية مذهبية، بالارتكاز على تواصل معيشي ومطلبي، لأن ثمن العقوبات التي يدفع ثمنها الشعب السوري بكل شرائه هي بنتيجة هذا النظام، ولا يمكن حلّ هذه الأزمة باستمرار النظام، خاصة أن الأزمة ذاهبة إلى المزيد من التفاقم. وهذه التطورات وحدهاً، ستعكس تطوراً في التعامل الدولي والأميركي تحديداً مع تركيبة الأسد ونظامه، لأن ما يجري يكشف الوقائع أكثر فأكثر، لا سيما بما خص التأثير الأميركي غير المحدود، والقادر على فرض الشروط التي يريدها استنادا إلى قدرته على الخنق. ما يجري هو مرحلة من مراحل الصراع الدولي، وهذا التنافس، يجب أن يشكل حافزاً جديداً للشعب السوري، للاستفادة منه وإعادة إحياء تحركاته بأساليب وشعارات جديدة.

سابقاً كان هناك مرحلة أطلق عليها اسم "الحرب على الإرهاب" وباسمها تشكلت تغطية دولية أوروبية أميركية لكل الجرائم التي ترتكب، اليوم انتقلت المسألة إلى الصراع على النفوذ، وهذا الصراع بالتأكيد يؤدي إلى خلافات بين الرؤى الدولية، وبنتيجتها يحصل الاستنزاف للنظام السوري، لإيران، ولروسيا أيضاً. هذه اللحظة السياسية تكون ملائمة لتحرك المجتمع السوري ببناه المعارضة سواء كانت قديمة أو إفراز معارضات جديدة.

وهذا النوع من التحركات الشعبية المطلبية، وحده القادر على مواجهة العصبية الطائفية والمذهبية التي عمل عليها النظام لتشكيل عناصر التضامن والتضافر للالتفاف حوله، لأن الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية التي تعيشها سوريا تطال الجميع، والمجتمعات لها طابع التأثر ببعضها البعض، خاصة في وضع كالحالة اللبنانية والعراقية. خاصة أن هذه المجموعات البشرية الموالية، تعتاش على حالة النظام المتردية، وبالتالي حالة الناس في أدنى مستواياتها، ما يشكل فرصة جديدة للنهوض في تحركات احتجاجية شاملة وواسعة، تعيد جمع السوريين على مطلب واحد، وهو العيش بكرامة بدلاً من الذل الذي يغذيه النظام. وهذا حتماً سيتحقق عاجلاً أم آجلاً، لأن مسارات الشعوب غير قابلة للتوقف، إنما أشكال تقدّمها وتطورها تتغير وتتخذ طبائع متنوعة، لكنها تسير في نفس الاتجاه.