icon
التغطية الحية

تاريخ الصراع السياسي ومستقبل القمع: حتمية أن تكون الضحية أو الجلاد

2021.10.23 | 07:15 دمشق

alsra_alsyasy-_tlfzywn_swrya.png
+A
حجم الخط
-A

تدرس التجربة المسرحية للكاتب (أنطونيو بويرو باييخو) كواحدة من أبرز تجارب المسرح الإسباني ما بعد الحرب الأهلية 1936-1939، ولذلك فإن عديد الموضوعات التي عالجها في نصوصه تتقاطع مع انشغالات المسرح السوري الراهن على المستوى السياسي والتجربة الأهلية والاجتماعية، والعلاقة بين الأفراد والسلطة، فقدم المخرج المسرحي (عمر الجباعي) عرضاً بعنوان (تفصيل صغير، 2014) مقتبس عن النص المسرحي للكاتب باييخو يحمل عنوان (القصة المزدوجة للدكتور بالمي، 1968)، هذا النص المسرحي الذي ألهم (سعد الله ونوس) سابقاً، وكتب عنه اقتباسا ومعالجة بعنوان (الاغتصاب، 1989).

مسرح التعذيب السياسي والتحليل النفسي

برز مسرح باييخو في معالجة آثار النزاع الأهلي الاسباني، ومقدار العنف، وانتصار السلطة، وسيادة المسرح الدعائي والتمجيدي. لكن مسرحية (القصة المزدوجة للدكتور بالمي) تعود لتضع موضوعات الخطاب السياسي القمعي، العنف ومبرراته السياسية والثقافية، وتربطه بحبكة مستمدة من علم النفس. يذكر المؤلف أن الأحداث: "تجري في سوريليا، وهو بلد بعيد في عرضنا الحاضر عن يمين وشمال المشاهد". وفي ذلك تورية للرقابة في بلده الأصل. وتنطلق الحبكة من العجز الجنسي الذي يعاني منه رجل الأمن (دانييل بارنيس)، وزياراته المستمرة مع الطبيب النفسي (د.بالمي) وهو الذي يروي الحكاية مباشرة إلى الجمهور، شارحاً هذا التقارب المستمر بين التحليل النفسي ومسرح العنف، كما نراه في نص (العذراء والموت، آرييل دورفمان، 1990)، يقول الطبيب النفسي في مسرحية باييخو،

(د.بالمي): "نحن الأطباء النفسيين نعرف أن كل تاريخ بشري، مهما كان كريها، يريد أن يصبح قصة حب وجمال".

ومن هنا، فإن دانييل الموظف الأمني يعاني من عجز جنسي تتراجع أهميته حينما تفتح الحكاية المسرحية على ممارسات التعذيب، دوافعه وفلسفته، والأهم حضوره التاريخي المستمر مرافقاً للفكر والحضارة الإنسانيين. كل ذلك يتطلب جدليات دقيقة وعميقة حول تكون عناصر العنف والتعذيب، وخطاب الكراهية الاجتماعي، وخطاب الإقصاء الديني، ودور الحكايات الشعبية في تشكيل الآخر بصورة المنافس، الإرهابي، وحتمية الأدوار الموزعة بين السلطة والتغيير في أي ديالكتيك تاريخي سياسي. وهذا ما يجمع أطروحات باييخو مع نص ونوس وعرض عمر الجباعي.

 

 

تتضح بجلاء رغبة باييخو ألا يبتكر شخصيات نمطية، مثل رجل الأمن الشرير، فدانييل ليس إلا موظفاً في نظام يدافع عن نفسه بالقمع، فينقلنا الفصل الثاني إلى علاقة دانييل بزملائه في العمل، إنه يخشى أن يكتشف زملاؤه حساسيته وضعفه، فيزداد عنفاً لإرضاء نظريات قائده الأمني (باولوس) الذي يقول: "لقد أصبحت عجوزا ولا أؤمن إلا بالوسائل الفعالة أما التيارات الكهربائية فلا قيمة لها. الرجل لا يهزه إلا ما يمس رجولته ويؤذيه في أعضائه الحيوية". وهكذا يتشارك عناصر الخلية الأمنية في اغتصاب المعارض المعتقل، ومن ثم يقدم دانييل تحديداً على اغتصاب زوجة المعتقل أمام زوجها، كما يعترف للدكتور بالمي، الذي يحلل مراحل تشكل الكراهية في وعي الأفراد:

د.بالمي: "أظن من السهل في بداية الأمر أن يتعلم المرء احتقار الناس، ثم يصفهم بالمجرمين والنصابين والسكارى واللصوص، ومن ثم ينتقل بسلاسة إلى ممارسة التعذيب".

دانييل: "إن هؤلاء الإرهابيين يستحقون الاحتقار أكثر من أي مجرم عادي".

منطق العنف تجاه الغريب، وتجاه القريب

يعرف السوريون والسوريات مفردات هذا الخطاب: مندسين، خونة، إرهاب. لكن المميز في المعالجة المسرحية لباييخو هو محاولته البحث المستمر عن المنطق السلوكي الذي يبرر أفعال رجال الأمن العنيفين

يعرف السوريون والسوريات مفردات هذا الخطاب، مندسين، خونة، إرهاب. لكن المميز في المعالجة المسرحية لباييخو هو محاولته البحث المستمر عن المنطق السلوكي الذي يبرر أفعال رجال الأمن العنيفين، وهي محاولة دقيقة من الكاتب المسرحي لتلبس خطاب السلطة الحاكمة من منطق الدفاع عن النفس، وضرورة الاستمرارية. إنها يستعرض بعمق حجج وأفكار المدافعين عن السلطة في مقابل التغيير، كما يتجرأ (ونوس) في حينها، على استعراض قناعات الفرد الإسرائيلي ووجهة نظره التاريخية والدينية والثقافية في الصراع العربي الإسرائيلي. لكن المخرج (عمر الجباعي) لا يتفق مع خيار ونوس ويرى أن جعل الصراع مع العدو يفقد المسرحية الجانب الأكثر أهمية فيها، وهو المتعلق بتحليل العنف والتعذيب الأهلي. وفي كلا الخيارين، فإن نص (القصة المزدوجة والاغتصاب) يوضحان السلوك والثقافة الاجتماعية التي تكرس العنف وتشرعنه وتسجع عليه سواء تجاه المجتمع الآخر أو بين أفراد وطبقات المجتمع الواحد. فالجدة في الصراع الأهلي الإسباني تلتزم الصمت طيلة الوقت على سلوكيات العنف لابنها، بينما تكرس الجدة الإسرائيلية عبر الحكايات الدينية والشعبية ثقافة الكراهية ضد العربي وتحض على ضرورة إفنائه، ومن هنا يعنون (ونوس) الفصول التي تروي الحكاية الإسرائيلية بـ(سفر النبوءات)، في إشارة واضحة إلى دور النبوءة الدينية في شرعنة العنف والإقصاء، بالمقابل تحمل فصول الحكاية الفلسطينية عنوان (سفر الأحزان اليومية).

 

 

أدوات المجتمعات لاستمرارية العنف

في نص باييخو، زوجة المعتقل المغتصبة هي صديقة قديمة لماري، التي تكتسب أهمية تدريجية ومحورية. ماري هي زوجة دانييل، التي ترفض بداية تصديق ممارسات الزوج، وتجد سنداً في الصمت السائد من قبل الجدة والمجتمع على سلوكيات التعذيب. لكن ما يشكل وعيها بالحقيقة، هي تجربة قراءة كتاب (تاريخ موجز للتعذيب السياسي) فيتشكل وعيها ومحاكمتها الأخلاقية التي تواجه فيها زوحها، وكذلك كل ممارسي التعذيب عبر التاريخ:

ماري: "وكما ترى يشتمل على كثير من الصور، الوثائق، وهو كامل إلى درجة اليشاعة"

دانييل: "إنه أدب التهويل وخداع المساكين. نحن نعيش في عصر رهيب يا ماري، ونحن لسنا إلا أدوات تنفيذ، فإذا كنا مذنبين فإن كل المجتمع مذنب إذا.

ماري: أتبرر أفعالهم إذاً، هذا شيء شنيع، الكتاب يقول إن التنكيل وجد في كل العصور، لكن الهدف لم يكن انتزاع الاعترافات، بل كان لمجرد العقاب. أتتخيل ملايين الأجساد المعذبة، العيون المفقوءة الأعضاء المقطعة أو المحروقة، أما النساء فقد فقدن العفة بالقوة، وقطعت أثداؤهن. هذا هو الشر من أجل الشر".

ويمكن متابعة الجدل مع خطاب ماري السابق، سواء مع دانييل شخصية باييخو، الذي يرد:

دانييل: خلال عصور طويلة كانت المجتمعات بكاملها تقوم بالتعذيب، كان الجميع مذنباً إذاً؟

أو مع شخصية إسحق في نص ونوس:

إسحق: إن العرب الذين سحقناهم في الحروب، تحولوا كأي جبان إلى أعمال الإرهاب والتخريب. وقد علمنا تاريخنا أن أي وسيلة لمواجهة الشر هي استئصاله قبل أن يستفحل. إن أمن الدولة اليهودية بين أيدينا، ومعاملتهم بقسوة ضرورية. إن اللغة الوحيدة التي يفهمها هؤلاء الهمج هي الشدة".

التعاطف خيانة

إذاً، تتشارك الصراعات الإنسانية العناصر المكونة لخطاب العنف والقمع والتعذيب التي طالما حضرت في التاريخ، ولا يقدم الأفراد راهناً إلا على توظيفها مجدداً، للحماية من إمكانية تسلط الآخر، الإرهابي، القمعي بدوره حيث يقلب النظام السائد. ورغم أن الحدث الإسباني والفلسطيني مختلفي السياق التاريخي والسياسي والثقافي، لكن النصان المسرحيان يبرهنان على أن منطق السلطة القمعية هي الحفاظ على المجتمع والدولة، ومن ثم الخوف من الآخر المجهول، وصولا إلى الكراهية التي تصلح مبرراً لأبشع سلوكيات التعذيب. وهكذا يتميز النصان بالكشف عن أسباب العنف وعناصره من الخطاب الديني، السياسي، والثقافي. ولذلك يحرص الكاتبان ونوس وباييخو لاستعراض العلاقات بين أفراد النظام القمعي فيما بينهم. لقد بدأ زملاء (دانييل) في المجموعة الأمنية يشعرون بتردده، وبالتالي يتهم بالخيانة كمصير محتوم على أية محاولة لإدانة القمع والعنف، كما يقول القائد الأمني للمجموعة:

(باولوس): "لابد أن ألفت نظرك إلى شيء خطير، إن عدم التحمل في مثل هذه الأوقات معناه التعاطف مع الأعداء. فجأة ترى أنهم بشر، وتنسى الخطر الداهم".

المسرح في محاولات تجاوز شرط الصراع

في المقدمة التي أرفقها ونوس بنصه (الاغتصاب) يوضح أنه رغب بتحويل حكاية باييخو إلى الصراع العربي الإسرائيلي، لكنه ينبه في الملاحظات المسرحية ألا يتم تنميط الشخصيات الإسرائيلية، يكتب: "في هذه المسرحية راويتان وحكايتان، راو إسرائيلي، وراوية فلسطينية، حكاية إسرائيلية وحكاية فلسطينية، والحكايتان تتداخلان وتتبادلان النمو، وإني أحلم بأدائيين متميزين". ومن هنا وجهت لخيار (ونوس) المسرحي انتقادات تتعلق بريادة نصه المسرحي في استعراض المواطن الإسرائيلي وتقديمه على المسرح مع شخصية (الدكتور منوحين). لكن هذا الخيار الطليعي هو ما يميز نص (الاغتصاب)، الذي يحمل فصله الختامي عنوان (سفر الخاتمة)، ويجري فيه على المسرح اللقاء المباشر بين الكاتب نفسه سعد الله ونوس مع الدكتور (إبراهيم منوحين) الشخصية الإٍسرائيلية التي ترفض العنف وتدينه، ويوضح الحوار بين العربي والإسرائيلي الرافضين للعنف، الصعوبات التي تعانيها محاولات الفكر في اللقاء التواصلي وتجاوز الشرط الثقافي والتاريخي المفروض. "تجاوز الشرط مفردة تتكرر على لسان الشخصيتين من كلا الطرفين المتنازعين سياسياً بيت العربي والإسرائيلي.

د.منوحين: "إذاً فأنت تؤمن بأن وجود أمثالي محتمل"

ونوس: بل مؤكد، وإلا أصبح التاريخ أفقاً مظلماً. لقد اخترت الولاء للعدالة بدلاً من القانون. سيأتي وقت وسيصغون، في الفترات القاتمة من المهم أن تظهر شخصيات تنحي الأكاذيب، وتطل على أفق تاريخي جديد. ومع هذا، كان على أن أشخذ طاقتي كي أتخطى الحواجز في داخلي وحولي للقائك.

د.منوحين: لقاؤنا محفوف بالمخاطر، ولكن كل منا يريد أن يتجاوز شرطه".

حتمية الصراع: أن تكون الجلاد أو تكون الضحية؟

وهذه المحاولة التي قدمها باييخو، ونوس، والجباعي، فممارسات القمع والتعذيب حاضرة في كل السلطات السياسية التي يدينها الثلاثي في مسرحهم. ويعبر باييخو عن ذلك في الأحلام التي تراود ماري زوجة دانييل، التي يتكرر حلمها بأن زوجها يعذب ابنتها التي لم تولد بعد(دانيتيلا)، بينما تعترف للدكتور بالمي بأنها أصبحت تكره ابنها الصغير:

ماري: هذا فظيع، أحياناً يخيل إلي أنني أصبحت لا أحب ابني. أرى في وجهه الصغير ملامح أبيه الجلاد.

د. بالمي: إن ابنك بريء، وعليك العمل ما في وسعك لكي لا يصبح في الغد جلادا آخر.

ماري: ألكي يصبح ضحية؟

 

 

إن تاريخ الفكر السياسي إذاً، يكرر على الأفراد عبر الأجيال حتمية الخيار بين احتمال التسلط أو القهر، هذه الثنائية نتيجة حتمية للتربية القائمة على صراع الثقافات، والتي تعبر عنها مجموعة من الشخصيات في المسرحيتين:

مائير: "عليكم ألا ترحموا حتى تدمروا نهائياً ما يسمى الثقافة العربية التي سوف نبني حضاراتنا على أنقاضها.

د. منوحين: "ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام ونزاع للأرض كلها، لم تزرعِ في قلوب أبنائك إلا الكبر وكراهية الأغيار. كيف ينسى المرء تلك الرهبة المليئة بالبغضاء التي تغذى بها طفلاً.

إسماعيل: "لكم هو مخيف هذا الرب الذي تتحدثون عنه، الرب الذي يصطفي العنصرية، وتشغفه المضاربة على الشعوب والأراضي.

باولوس: أنت مثل الطفل الذي يرى العالم على أنه حكاية الطيبين والأشرار. لكن كثيرا ما يكون الجلاد شهيدا قد استطاع التغلب على الصعوبات ويعيش، بينما يكون الشهيد جلادا لم يمت في الوقت المناسب، كما يمكن أن يحدث لأي واحد منا. شهداء جلادون كلها كلمات للدعاية، ولكننا نحن الآن موجودن، ويجب أن تكون الحقيقة والحق في صفنا. لا يمكن أن يكون الحق إلا في جانب واحد، ونحن مضطرون لاستعمال كل الأسلحة، لأن العدو يستعملها أيضاً.

هذه المحاور التي ركز عليها المخرج عمر الجباعي في اقتباسه لمسرحية باييخو، حيث ركز على مشاهد الحوارات الجدلية بين الطبيب النفسي والعنصر الأمني، وعلى دور الثقافة في تشكيل وعي الكراهية حين تروي الجدة حكايات للطفل الصغير المليئة بأسباب العنف، وكذلك العلاقة بين الرجل الأمني وزوجته والحوارات الدقيقة المتعلقة بالأخلاق والمهنة، مع مجموعة من الممثلين والممثلات:

  • زوزان باقي
  • ديمة نشاوي
  • ألينا عامر
  • عزام مصطفى
  • محمد قلاميجو
  • مؤيد البني (صوت)
  • عمر الجباعي.