تاريخٌ من الهجرة إلى الكرامة

2021.11.18 | 04:56 دمشق

96898bca-52d4-41f7-a2bc-5c387afdf49e.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثفت وسائل إعلام النظام ومعها وسائل أخرى روسية الاهتمام بأعمال الاجتماع المشترك للهيئتين الوزاريتين التنسيقيتين السورية الروسية حول "عودة المهجرين"، والذي انطلق قبل يومين في قصر المؤتمرات بدمشق.

الطرفان المنفصلان عن الواقع، وبعد فشل المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين الذي عقداه قبل عام تقريباً في المكان ذاته، في إقناع أصحاب الشأن بحضوره!

مازالا ينكران الحقائق، ولا يريان جموع اللاجئين السوريين العالقين على حدود بيلاروسيا الذين يحاولون الفرار صوب الدول الأوروبية، لا بل إن الروس تحديداً يستميتون في طرح القضية خلال أي اجتماع مع الدول الغربية، وبما يوحي لغير العارفين، بأن البلد باتت على أرض مستقرة، ولا تحتاج شيئاً سوى رجوع المغتربين أو المهجرين!

وقد ظهر في الأيام المنصرمة أن "العودة" باتت مسألة حاضرة في سياق أحاديث الممثلين الرسميين للنظام، من وزيرة الثقافة إلى رجال الاقتصاد والصناعة الذين ذهبوا إلى إكسبو دبي. حيث يظهر أن ثمة تعليمات ملزمة، تملي على كل مسؤول حكومي أو مؤيد، لا أن يطالب مواطنيه بالعودة فقط، بل أن يلح عليهم، فوصل الأمر إلى تجريمهم ولعنهم، وهذا ما فعله المفتي السابق أحمد حسون!

بالتأكيد، لا تنطلي تصريحات هؤلاء على الدول المستضيفة للاجئين، فالأوضاع المحلية البائسة أوضح من أن تتم التعمية عليها بهذا التصريح أو ذاك.

سنعثر في حي مانهاتن في نيويورك، على منطقة سكنتها مجموعات مهاجرة، قدمت من بلاد الشام بين العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ومثيليهما في القرن العشرين، واصطلح على تسميتها بسوريا الصغرى!

كما أن كل مواطن غادر البلاد بعد أن بدأ النظام حربه على السوريين الثائرين، يدرك أن لا مجال للعودة، طالما أن الأسد باقٍ. وغالبية اللاجئين أعدت العدة ومنذ زمن لبقاء مستدامٍ في البلدان التي استقبلتهم، وقد تمثل هؤلاء تجارب لجوء وهجرة وغربة خاضها أقاربهم قبل أكثر من قرن ونصف، فصارت المسألة ممكنة، وحديث حالهم تعبر عنه أبيات شعر تتكرر في خواطرهم، تقول:

ترحل عن مكان فـيه ضـيم   وخــل الـــدار تــنــعـي مــن بــنـــاهـــا

فإنـــك واجـــــد أرضـاً بـأرض   ونفسك لن تجد نفساً سـواهـا

ومن كانت منـــيتـــه بـأرض    فليس يموت في أرض سواها

وطبقاً لهذا الموروث المبني على تكرار الفجائع والمصائب، فإن جزءاً من مقاومة سياسة النظام، الذي يحاول إيهام دول العالم بأنه عاد إلى سيطرته على سوريا، صار يتجلى في قدرة السوريين على إقامة "سورياتهم" الخاصة؛ ففي كل مكان يحلون فيه، لابد سيقومون بإنشاء تجمعهم الخاص، الذي سيرتبط باسمهم.

حدث هذا في المدن الكبرى كإسطنبول والقاهرة وبرلين خلال السنوات العشر الماضية، ويحدث في المدن الصغرى، وحتى في الأرياف البعيدة، وفي هذا ظهرت قدرة الثائرين على مكافحة الأذى الذي صنعه النظام بهم حين أجبرهم على ترك أوطانهم، من خلال التواصل الحثيث فيما بينهم، من أجل تكوين المجتمعات الصغرى، التي تعكس واقع المجتمع الكبير.

قراءة تاريخ مجتمعات بلاد الشام الحديث، توضح أن الأمر ليس جديداً، فقد شغلت قضية اللجوء والهجرة أبناءها، منذ نهايات القرن الثامن عشر، وحتى الآن.

كان اسم هؤلاء في المؤلفات التي تحدثت عن الأمر، وبحسب الأوراق الرسمية هو (السوريون)، بينما كان اسمهم في الحيز الشعبي ولا سيما في القارات البعيدة (التوركو) وذلك بسبب كونهم يحملون أوراقاً عثمانية تركية!.

وهكذا سنعثر في حي مانهاتن في نيويورك، على منطقة سكنتها مجموعات مهاجرة، قدمت من بلاد الشام بين العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ومثيليهما في القرن العشرين، واصطلح على تسميتها بسوريا الصغرى!

ورغم تلاشي الخصوصية المحلية لغالبية أفراد وعائلات المهاجرين بسبب اندماجهم في المجتمع الأميركي، وتحولهم مع الوقت إلى أفراد فاعلين في مختلف المجالات، إلا أن ذكرى آبائهم وأجدادهم الذين فروا أيام السلطنة العثمانية، بقيت راسخة في التاريخ المحلي، فتتم استعادتها في المدونات والمؤلفات التي تتحدث عن المجموعات البشرية التي قدمت من كل أنحاء العالم، لتصنع أسطورة الحلم الأميركي المتداولة عن تلك البلاد.

Syrian_baklava_maker_in_the_New_York_City_diaspora.jpg

العودة إلى تاريخ الأسر المهاجرة وأسباب هجرتها، شغلت الباحثين، فرجعوا إلى وثائق تلك المرحلة، وحققوا بعضاً من مدوناتها ونشروها، فظهر على سبيل المثال لا الحصر تحقيق جديد لكتاب "تاريخ المهاجرة السورية إلى الديار الأميركية" للخوري باسيليوس خرباوي، والذي صدرت طبعته الأولى عام 1913، وأيضاً تحقيق لكتاب "دليل المهاجرين اللبنانيين الأوائل إلى أميركا في مطلع القرن العشرين" لسلوم مكرزل وحبيب قطش، والذي صدرت طبعته الأولى أيضاً في العام 1908، وقد وثق مؤلفو هذين الكتابين تفاصيل كثيرة عن حال أولئك الذين غادروا أوطانهم، فأعادوا بناء أخرى بديلة عما تركوه وراء المحيطات، أو بالأحرى فقدوه بسبب الفقر والعوز والحروب!

هم من أكثر الأمم حناناً إلى أوطانهم ولا يزالون يذكرون الوطن ويحنون إليه ولو طال زمن اغترابهم ويعللون النفس في الرجوع إليه ويبذلون جهدهم في ذلك

الكاتب الشهير جرجي زيدان كتب عن الأوطان البديلة الأخرى، في سياق مقالاته في مجلة الهلال التي أسسها في مصر، فتوسع في واقع المهاجرين في القارات البعيدة، وأضاف إلى حديثه عن القارة الأميركية الشمالية قولاً آخر عن المهاجرين في بلدان القارة الجنوبية، واشتغل بشكل عياني على نشاط أمثال هؤلاء في مصر، القطر الشقيق.

10.png

ففي كل بلد نزلوا فيه كانوا يبذلون جهوداً عظيمة من أجل أن يجدوا لأنفسهم المكان اللائق بين سكانه، لكنهم في الوقت نفسه كانوا يعيدون بناء أوطانهم من خلال تفاصيل مادية، عبر لقاءات تجارية وصناعية مشتركة، وروحية تبدأ بتجمعهم في أماكن عبادة خاصة ومنتديات ثقافية، تؤكد أن هؤلاء وإن جنحوا بعيداً عن البلاد، إلا أنهم يبحثون عنها في حاضرهم، فعلاقة السوريين بوطنهم بحسب جرجي زيدان: "علاقة حنين وائتلاف لا علاقة هجوم أو دفاع ولا علاقة ملك وانتفاع. وهم من أكثر الأمم حناناً إلى أوطانهم ولا يزالون يذكرون الوطن ويحنون إليه ولو طال زمن اغترابهم ويعللون النفس في الرجوع إليه ويبذلون جهدهم في ذلك. وقد تتسع تجارة أحدهم ويقتني العقار ويبني المنازل في دار غربته وهو مع ذلك يعدُّ نفسه مقيماً إلى أجل إذا انقضى، رحل إلى وطنه. فهو إنما يرجو ذلك من حنينه ولكنه في الواقع لا يرجع"!

وهؤلاء أيضاً، أي من يعيشون قهر لجوئهم وغربتهم، يرجون أن يرجعوا، لكنهم بعد كل هذا التاريخ المضني، باتوا يدركون أن العودة إلى سوريا، حتى وإن جاءت بضمانات دولية، لا تعني شيئاً سوى الهجوع في قيود الذل والمهانة، طالما بقي الأسد ونظامه.