بين مشروعي الصهاينة والملالي: الخروج من الضياع

2023.03.29 | 05:58 دمشق

1
+A
حجم الخط
-A

رغم اتفاقية "كامب ديفيد"، استمرّت غُربَةُ إسرائيل في محيطها العربي، الذي لم ينسَ فلسطين. طَبَّعَ السادات مع إسرائيل؛ ولكن شعب مصر بقي يرى في الكيان الصهيوني قوة احتلال. أراح إسرائيل صَدُّ "الخطر القادم من الشمال" الذي تحدّث عنه "بنغوريون" في مذكّراته؛ حيث كان حافظ الأسد قد قام بالمهمة بمعاونة قوة وُلِدَت إثْرَ قيام "الثورة الإسلامية الإيرانية". فهو عام سبعة وستين حصّنها بالجولان، وفي مطلع ثمانينيات القرن الماضي، هيأ لها مَن يحرس الشمال في الجنوب.

كي يتنفس المشروع الصهيوني، كان لا بد من كسر "الطوق العربي الشعبي"؛ حيث كامب ديفيد لم يحقق هذا التنفس؛ ولا "وادي عربة" حققه؛ ولا طاغية الشام تجرأ على اتفاقية مع الكيان، كي لا يفتضح أمره، ويفقد ذريعة بقاء سلطته "للأبد". حصل انفراج في المشروع الصهيوني تحديداً عام تسعة وسبعين من القرن الماضي مع قدوم "الخميني"؛ عندما أزاح الغرب "الشاه"، الذي لم يكن لديه مشروع توسعي، كي يلاقي ويتمم ويكمّل مشروع الصهاينة في السيطرة على المنطقة العربية سوقاً، وثرواتٍ، وبحاراً، وأماناً على سلامة إسرائيل. واتضحت بعض ملامح تنسيق وتكامل المشروعين بتزويد إسرائيل الملالي بالسلاح في حربهم على العراق.

مشروع ملالي طهران ابتلع باقي بلاد الشام وبلاد الرافدين إضافة لليمن وبعض البؤر في محيطه المباشر

خلال أربعة عقود أنجز كيان الملالي ما عجزت إسرائيل عن إنجازه منذ قيامها. وإذا كان مشروع الصهاينة ابتلع قطعة من بلاد الشام، فمشروع ملالي طهران ابتلع باقي بلاد الشام وبلاد الرافدين إضافة لليمن وبعض البؤر في محيطه المباشر. وهكذا التقى المشروعان، وكمّلا بعضهما البعض. وإذا كان الأردن يشكّل الجزء الذي لم يُبتَلَع من الشام، كي يكتمل ما سمّاه بحق العاهل الأردني "الهلال الشيعي"؛ فلا بد من أخذه، حيث يحتاجه مشروع الملالي كمعبر أو جسر وصول إلى الهدف النهائي والمتمثل بكعبة المسلمين وثروات السعودية وباقي الخليج العربي.

أكثر مَن يدرك حقائق المشروع الصهيوني أهل الشام من فلسطينيين وأردنيين ولبنانيين وسوريين، حيث قام المشروع على قطعة من جسدهم. ومن هنا، تظهر يومياً إشارات واضحة على الحضور الدائم للمشروع؛ فعندما تجري المقارنة بين ما فعلته إسرائيل وما تفعله إيران وأدواتها "حزب حسن" و"منظومة الأسد"، تصل الأمور بالبعض للقول إن "إسرائيل أرحم". لقد نجح "محور المقاومة والممانعة" بإجرامه بحق السوريين واللبنانيين، بتشويش وتخفيف بشاعة ما تفعله إسرائيل؛ فهي مثلاً لم تفعل بسوريا وأهلها ما فعلاه؛ وهكذا تصبح أكثر قبولا من ذي قبل، إذا ما قورنَت بهما.

وفي عطف سريع على الماضي القريب، ألم يكن مشروع الملالي الأداة التي أنهت العراق (عمق وظهير) بلاد الشام؟ وفي القريب جداً، ألم يكن هناك صمتٌ ومباركة ضمنية من إسرائيل وأميركا خلفها لتَمَدُد أذرع مشروع الملالي إلى لبنان وسوريا؟ أليس شرذمة الحالة الفلسطينية تحت يافطة "تحرير القدس" و"لواء القدس" - دون إطلاق رصاصة واحدة في أرض فلسطين - إجهاضاً للقضية الفلسطينية؟ أليس تحويل لبنان إلى حالة كسيحة خدمة جليلة للمشروع الصهيوني؟ أليس كل ذلك نجاحات للمشروع "الصهيوني" الأصل، والذي يمثّل ونظيره الإيراني مسرحية العداء المتبادل، التي نشهدها في استهداف إسرائيل لمواقع إيرانية في سوريا من وقت لآخر، وفي الاستنفار (الإسرائيلي خاصة) من مشروع إيران النووي؟!

وفي آخر المستجدات على تناغم المشروعين هناك بعض الإشارات التي تشي بتنسيق حقيقي. فعندما يعتبر أحد وزراء الكيان الصهيوني الأردن موطناً للفلسطينيين، وضرورة ترحيل الفلسطينيين إليه، فهو للضغط على الأردن للارتماء بالحضن الإيراني، الذي هو ذاته الحضن الإسرائيلي. وهل من شك بأن الغاية النهائية من ذلك استكمال "الهلال الشيعي"، وفتح الممر باتجاه السعودية والخليج؟! ومن هنا، لا يمكن فهم الخطوات الإسرائيلية-الإماراتية إلا في هذا السياق، كخرق لدعم اكتمال هيمنة المشروعين المتكاملين.

من جانب آخر، وفي ظل إرهاصات الانفتاح الأخيرة على إيران الملالي؛ حيث تتم على هوامش هذا الغزل إعادة تكرير أحد أذرع مشروع الملالي المتمثلة بمنظومة الاستبداد الأسدية، ويتم زهق الحق السوري، وطي صفحة ١٢ عاماً من العذابات السورية؛ ألا يحق للسوريين القول إنه إذا كان العرب لا يمتلكون مشروعاً لمقاومة المشروع الصهيو- فارسي المزدوج، وخطره الوجودي عليهم وعلى بلادهم وشعوبهم؛ أليس حرياً بهم على الأقل عدم خدمة هذا المشروع (بعلمٍ أم بغفلةٍ) من خلال تحسيسه بالأمان، أو التطبيع مع أدواته الإجرامية وأذرعه السامة؟!

لا بد بداية أن ندرك أن اندفاع إيران بفعل مبدأ "التقية" نابع من حالة ضعف وإحساس بالخطر الداهم والغليان الداخلي؛ فهي "تتمسكن لتتمكّن" كما يُقال

ليعلم الجميع أنه لم يبق للسوريين كشعب ما يخسرونه، ولكن ما زال لدى إخوتهم العرب الكثير؛ وإن كان هناك نيّة وأمل في نجدة السوريين، فإن غوصهم في مشروع العلاقة والتطبيع سينهي الأمل، ليس لهم بل لإخوتهم أيضا، وبذا يكتمل مشروع الخطر الوجودي فعلا. وفي هذا السياق يبرز السؤال الحاسم: هل مصير منطقتنا أن يُطْبِق عليها مشروعان متناغمان، وتكون نهاية أي طموح في الحرية والسيادة والاستقلال؟ والجواب، ليس بالضرورة؛ إذا كان هناك صحوة، وإذا لم نسهم أنفسنا بإنجاح مشاريعهم، وأن يكون لنا مشروعنا.

لا بد بداية أن ندرك أن اندفاع إيران بفعل مبدأ "التقية" نابع من حالة ضعف وإحساس بالخطر الداهم والغليان الداخلي؛ فهي "تتمسكن لتتمكّن" كما يُقال. لا بد من استغلال الصراع الأميركي الروسي في أوكرانيا؛ وإدراك أن التباعد الخليجي الأميركي شبه مستحيل. فلا يتصورنّ أحدٌ خسارة أميركا لسوق وخيرات وممرات ولأهم مادة في اقتصاد الحياة الحاضرة. من جانب آخر، لا يمكن التغافل عن العلاقة الصينية الإسرائيلية. في المحصلة، يبدو أننا أمام أحد أمرين: انخراط سعودي وذوبان بالمشروعين وإنهاء لهذه الأمة وفي المقدمة السعودية، أو السير عكس تيار المشروعين.

حتى وإن لم يتوفر المشروع العربي المضاد، واستلزم الأمر رسم استراتيجية بقاء على الأقل، كي يكون الخروج من الضياع بين فكّيّ المشروع الصهيوني-فارسي، لا بد من الضغط على الأذرع، وعدم التمادي والانجرار إلى أيٍ منهما، ووقف إعادة إحياء أحد أدوات المشروعين معاً: "نظام الأسد"؛ ولا بد من نجدة الأردن، والانتباه إلى ما يُحاك للسعودية حصراً، وجعل العلاقة بأميركا والصين وروسيا متوازنة؛ والأهم من كل ذلك الالتفات الحقيقي إلى جوهر القضية السورية. كل هذا قد يضع أناساً في عين الخطر؛ إلا أن الذوبان في لهيب المشروعين أعلاه أخطر بألف مرة.