icon
التغطية الحية

بين "شيخ الشباب" فخري بك البارودي و"شيخ المطربين" صباح فخري

2021.11.07 | 05:03 دمشق

fkhry_albarwdy-_tlfzywn_swrya.png
أحمد العربي
+A
حجم الخط
-A

رحل صباح فخري، المطرب المتفرّد وصاحب الأداء الغنائي الاستثنائي بكل ما تحمله العبارة من معنى، بعد أن أسهم في رسم زاوية مهمة من زوايا تكويننا الذهني وذاكرتنا الأصيلة، مشاركاً بذلك مختلف جوانب الحياة وعناصرها وشخوصها الذين تناوبوا في بناء ذلك التكوين وتلك الذاكرة.

خمرة الحب اسقنيها.. يا مال الشام.. ابعتلي جواب.. يا شادي الألحان، وغيرها الكثير والكثير من الأغنيات والقدود والموشحات التي لم تكن لتمثّل لنا أي ذائقة تراثية فنية مميزة لولا صوت صباح ونغمته. حتى أغنية "فوق النخل" المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعملاق العراقي ناظم الغزالي؛ منحها فخري رونقاً آخر. 

رحل شيخ الطرب والمطربين صباح فخري، أو صبحي أو صباح الدين أبو قوس، الذي جلبته أمّه من حلب ذات يوم من أيام أربعينيات القرن العشرين، وعهدت به للزعيم الوطني السوري فخري بيك البارودي الذي كان يؤسس آنذاك لأول معهد موسيقي عربي يهتم بالتراث وتدريسه ويؤهل المواهب ويدعمها.

فخري البارودي الذي حارب من أجل إعادة الاعتبار للموسيقا العربية، بالكتابة والدعم المالي والمشاريع ذات الأبعاد التنموية، فكرياً وفنياً، غيّبه الموت أواسط الستينيات، لكنه استمرّ بفعل آثاره الجليلة، ومن بين الآثار استمرار حضوره كل مرّة يُذكر فيها صباح فخري الذي منحه البارودي اسمه تكريماً وتشجيعاً له، بعد أن اكتشف موهبته وتكفّل بمصروفه طوال فترة دراسته في المعهد علاوة على دفعه إلى الإذاعة السورية والميادين العربية.

فخري بِك البارودي.. شيخ الشباب

في كتاب "الرحلة الأوروبية لفخري البارودي" الذي حققه الكاتب والروائي السوري إبراهيم الجبين، يتناول البارودي تفاصيل رحلته إلى أوروبا بين عامي 1911- 1912. إلا أن المحقق توسّع في تلك التفاصيل فعرّج على حياة البارودي وأعماله كلها، مستعيناً بمصادر أخرى تحدثت عنه، وبعضها من أوراق لم تنشر للبارودي سابقاً.

الكاتب (الحائز على جائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات عام 2021) تتبّع حياة البارودي وأدواره الوطنية والاجتماعية والثقافية والسياسية وعلى كل الصعد، بحيث أصبح من أهم الشخصيات التي توجّه بوصلة العمل الوطني السوري وتحدّد المطلوب والريادة في الأعمال التي باشر بها على كل الصعد المجتمعية.

البارودي.. من هو؟

ولد فخري البارودي عام 1887 وحيداً لعائلته الدمشقية الثرية، وكان والده شديداً في تربيته وحرصه عليه، وتعلم في الكتّاب عند "الخجا نفوس" لفترة ثم انتقل لمدرسة ابتدائية ومنها إلى مكتب عنبر، المدرسة التي كانت تطفح بالروح القومية العربية. إذ كان ذلك في بدايات القرن العشرين، وتخرج فيها عام 1906 وأصبح مخولاً لأن يعمل معلماً.

أعطته تلك الشهادة ميزة اجتماعية، فالمتعلمون كانوا قلائل في ذلك الوقت. وقد طلب من والده أن يذهب إلى الأستانة (إسطنبول) لكي يتابع دراسته. لكن الأب رفض ذلك خوفاً عليه؛ كان ذلك مؤلماً للبارودي الذي تمرد على قرار والده، ورفض عيش الشباب الأثرياء في اللهو وتوافه الأمور، وقرر أن يسافر في رحلة يجوب فيها أوروبا، ليطل على حالهم ويدرك تطورهم وتفوقهم على العثمانيين ومنهم العرب والسوريون.

سوري.. أدرك مبكراً أهمية المعرفة

كان البارودي مدركاً بالفطرة لأهمية العلم والتعلم والتطور التكنولوجي في كل الصعد الزراعية والصناعية وغيرها، وأهم ما في الرحلة أنه دوّنها بتفصيل كبير متابعاً كل أحوال الدول والشعوب التي مر عليها. العادات والتصرفات وكل ما يلفت نظره، كإنسان متعطش للمعرفة.

انتقل الشاب الدمشقي في بداية رحلته إلى عكا في فلسطين بالقطار ومن هناك إلى الإسكندرية بالباخرة، ومنها إلى نابولي بإيطاليا ثم سافر إلى مرسيليا في فرنسا، وهناك تنقل بين الدول الأوروبية في طريق عودته إلى الأستانة، مدوناً كل ما يثير اهتمامه.

أصرّ والده على منعه من البقاء في فرنسا ودراسة الزراعة، وأبى أن يزوده بالمال اللازم للعيش هناك، وأمره بالعودة إلى دمشق، لذلك عاد مارّاً بالدول الأوروبية ثم الأستانة ومنها إلى دمشق. لقد كانت الرحلة التي دوّنها البارودي قبل قرن من الآن سجلّاً مهماً عن أحوال البلاد والمدن التي مرّ بها.

أنهى البارودي رحلته وقد صقلت خبرته وتجربته أكثر في بدايات القرن العشرين عام 1912، حيث كانت الحركات السياسية التي تريد الإصلاح في الدولة العثمانية قد بدأت تتوالد منذ في تلك الفترة مثل أحزاب "تركيا الفتاة" و"الاتحاد والترقي"، وكذلك "العربية الفتاة" وغيرها، رجال تلك التيارات كانوا يطالبون بالدستور، وبتغييرات في الحكم وإدارة السلطنة. ما أدى إلى إسقاط السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908 وبداية هيمنة جمعية "الاتحاد والترقي" على السلطة في الأستانة "إسطنبول" عاصمة الخلافة.

 فخري السياسي

وفي خضم هذا الحراك السياسي والمجتمعي رفع هؤلاء أصواتهم أولاً لمواجهة السلطنة وضرورة التجديد فيها مع تركيا الفتاة والحركات الأخرى، إلا أن إزاحة عبد الحميد أظهرت نزعة التتريك عند الحكام الجدد. ما أدى إلى نمو النزعة العروبية عند البارودي وأبناء جيله من المتابعين السياسيين وبدؤوا العمل لمواجهة تلك السياسة. 

وكان البارودي أحد المناصرين للثورة العربية على حكم العثمانيين، فعيّن مرافقاً لفيصل بن الحسين أيام دخوله إلى دمشق لتأسيس دولة عربية في سوريا وبلاد الشام. لكن الحلم لم يكتمل حيث دخل الفرنسيون إلى سوريا محتلين عام 1920 بعد معركة ميسلون الذي استشهد فيها يوسف العظمة ومن معه، وفر الأمير فيصل إلى العراق.

البارودي.. ابن مجتمعه

عندما عاد البارودي من رحلته الأوروبية إلى دمشق، بدأ باستكمال مشاريعه المتنوعة التجديدية الهادفة لتحسين حياة الناس وإعانة الفقراء والتأكيد على مفهوم التكافل الاجتماعي، فقد أسس الميتم ودار الرعاية ونجح بذلك وكان عمله نموذجياً.

 يلتقي عنده المثقفون مساء كل ثلاثاء ويتداولون بالشأن العام، وقد استمر ذلك لعقود، ولن يغيب عن بالنا أن البارودي كان على علاقة وطيدة مع النخبة السورية التي كانت قد تعلمت في أوروبا وحصلت على خبراتها وعادت لتكون عقول صناعة سورية الجديدة على كل المستويات منذ سقوط الدولة العثمانية، وكيف استطاع البارودي والنخبة أن يحيّدوا الانتداب الفرنسي ويعملوا بدأب على تحقيق مشاريعهم التجديدية.

رجل دمشق الأول

تحول البارودي إلى رمز وطني مجدد على كل المستويات، وأصبح رجل دمشق الأول وصوتها الصادح بالحق، ونائبها في المجلس النيابي (البرلمان) مع أنه كان لا يميل إلى السياسة ويعتبرها صراعاً على مصالح ضيقة، فهو يؤمن بالأعمال التي تنفع مجموع الناس. ومع ذلك فقد ساند البارودي ثورات السوريين ضد الفرنسيين وموّل أبرزها وأهمها ثورة إبراهيم هنانو في حلب وثورة صالح العلي في اللاذقية.

وكتب البارودي عن فلسطين المغتصبة وضرورة تحريرها، وكان قومياً عربياً بشكل جلي، حيث كتب نشيده الأشهر "بلاد العرب أوطاني"، كما جدد في كل أمور الحياة وغامر في اقتحام مجالات صعبة ونجح فيها.

كما واجه البارودي "الإسلاميين التقليديين" وأعاد تقديم رقص "السماح" وحوله إلى الرقص الفني بينما كان مقتصراً على بعض المتصوفين، كما جدد في السينما والمسرح والغناء، وهو من اكتشف صباح فخري ووضعه على طريق التألق ومنحه اسمه، كما سبق وأشرنا. وهو من دعم ظهور عبد اللطيف فتحي ونهاد قلعي وغيرهم.

وللبارودي الدمشقي دور كبير أيضاً في إعطاء فيروز فرصتها في الإذاعة السورية وكذلك في حفلات معرض دمشق الدولي السنوية التي استضافت أيضاً أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وغيرهم من نجوم الطرب العربي.

كذلك كان للبارودي مداخلة مهمة جداً حول الدستور السوري الذي طرح عام 1950 وأنه كان الأولى أن تتم دراسته من لجنة مختصة من العلماء في كل الفروع قبل إحالته إلى الاستفتاء لدى شعب كان ما يزال أغلبه أميّاً آنذاك.

وعندما توفي البارودي عام 1966 ودّعته دمشق كلها، مرسخة اعتباره أيقونتها الثمينة التي عرفت قيمته، وعرف كيف يكون صوتها وبطلها.

وقبل الختام في الحديث عن حياة البارودي لا بد من التنويه إلى الدور البحثي المتميز للمحقق إبراهيم الجبين الذي أثرى كتابات وحياة البارودي من خلال الحواشي المهمة والمستفيضة التي أضافها للإعلام والوقائع والأحداث التي غطت قرناً من الزمان وذكرت دمشق بتفاصيل طالت كل ما يتعلق بها، إنه تعبير عن عمق انتماء وإخلاص وعشق لدمشق الخالدة عاصمة الأمويين ومدينة العالم، دمشق وبطلها المتوج فخري البارودي، الذي لقّبه السوريون ذات يوم بـ "شيخ الشباب".