icon
التغطية الحية

بين دراما "بطلوع الروح" ومسلسل هروبي من "عاصمة الخلافة"

2022.05.06 | 16:18 دمشق

btlw_alrwh-_tlfzywn_swrya.jpg
من مسلسل "بطلوع الروح" (يوتيوب)
+A
حجم الخط
-A

بالتزامن مع الضجة الكبيرة التي حصدها مسلسل "بطلوع الروح" الذي يحاكي الواقع المُعاش في مدينة الرقة خلال سيطرة "تنظيم الدولة" عبر شخصيات أدّى دورها ممثلو المسلسل، وبحكم انتمائي لما أطلق عليها عناصر التنظيم "عاصمة الخلافة" ووجودي بينهم لأكثر من سنتين؛ سأحاول ربط ما تم عرضه في المسلسل بالواقع  الذي عشته مع أهالي مدينتي آنذاك، وذكر تفاصيل أخرى لم يأتِ عليها العمل.

ولعل من أهم التفاصيل التي تجاهلها المسلسل -عن قصد أو من دونه- هو رفض فئة كبيرة من أبناء المدينة لوجود (داعش) وبالمقابل كان فيها من رحّب بوجوده بالطبع. إضافة إلى ذلك تم تغييب اللهجة المحلية للرقة إلا بمشهد متواضع يظهر فيه سائق تكسي يتحدث باللهجة الرقاوية.

كما أن تصوير مشاهد مسلسل "بطلوع الروح" خارج حدود الرقة هو أمر مفهوم ومبرَّر بحكم الظروف السياسية والعسكرية التي تحول دون تصويرها داخل المدينة، إلا أن المخرجة "كاملة أبو ذكري" حاولت عدم تغييب شوارع وأحياء الرقة من خلال ذكر بعضها بالإضافة إلى التقاط مشاهد عامة للدمار الذي تعرضت له.

بحكم وجودي في تلك الفترة كما ذكرت آنفاً، أذكر جيداً الصعوبة التي واجهتني وواجهت كثيرين من أبناء المدينة في التأقلم مع ذلك الوضع الذي انعدمت فيه كل مظاهر الحياة، لدرجة أن الزيارات العائلية أصبحت من عناصر "الرفاهية"! وتحولت وجوه الناس في شوارع الرقة إلى وجوه تصيب مُشاهدها بالاختناق، تختلف عن وجوه أبناء الرقة الذين تميزهم سمرتهم. تحوّلت إلى وجوه تشبه خنقة الحياة ولون اللباس الأسود الذي فُرض علينا ليُشعِرنا بعزاء مزمن.. وجوه بلحى طويلة وشعر مبعثر، و"الجلّابيات" القصيرة التي تعلو كعب القدم.

أكثر الذين عاشوا في الرقة في ذلك الوقت، كانوا يتجنبون الخروج إلا للضرورة القصوى أو للعمل. مظاهر عديدة كانت تتقصد (داعش) أن تكررها بين يوم وآخر لترهيب وتخويف الشعب، كتعليق الرؤوس بساحة "النعيم" وفي بقية الساحات والشوارع العامة وبين الحشود، وجلد أحد الأشخاص أو قطع يده.

كانت للنساء حصة من هذا الترهيب من خلال كتيبة "الخنساء" وسيارة "الحسبة" التي لا تختلف البتة عن أي سيارة للأمن والمخابرات حين تقتاد المعتقلين إلى سجن صيدنايا. أصوات وشهقات ورجاءات نسمعها من المدنيين في أثناء اقتياد أحدهم إلى تلك السيارة، من دون جدوى. وربما الصورة التي لم ولن تمحى من ذاكرة أبٍ وهو يقف عاجزاً يشاهد اقتياد ابنه أو ابنته أمام عينيه، وربما سيقام الحد على أحدهم.

بالنسبة لي، كانت الصورة الأكثر وجعاً حين شاهدت والدي وهو يُجلد أمام ناظريّ بسبب ارتكابي "مخالفة رفع النقاب عن عيني" في أثناء شراء ثياب العيد. دموعٌ حبستها وشهقة خوفٍ أخفيتها وكادت أن تخنقني. حينذاك لم نكن نفكّر إلا بعبارة "ياروح ما بعدك روح".

بالنسبة للمسلسل، أستطيع القول إن الصعوبة التي رافقت "روح" (الممثلة منّة شلبي) والمخاطر التي تعرضت لها للخروج من الرقة هي أقرب للحقيقة فعلاً، ولعل الواقع كان أفظع من ذلك أيضاً!

أخفقت لمرات عديدة في الحصول على إذن سفر للخروج من (ولاية الرقة) إذ حددت (داعش) شروطاً لمنح ذلك الإذن، كحالات المرض المميت الذي ليس له علاج برفقة "محرم".

رحلة هروبي من (داعش) لو شاهدتها على التلفاز من خلال فيلم أو مسلسل، لربما ظننتها من تأليف كاتب العمل بهدف شحن العواطف. ورغم ذلك، يبقى ما حدث معي أقل قساوة بكثير مما حدث مع آخرين مروا بتجربة الهروب.

كانت وجهتي الأولى مدينة منبج التي كانت هي الأخرى تخضع لسيطرة التنظيم، ومن بعدها إلى تركيا بمجرد تجاوزي الحواجز الثلاثة التي تفصل المدينة عن مناطق الجيش السوري الحر.

بعد وعود وعهود من المهربين، بقيت عشرة أيام بمنبج قبل أن يحين الموعد الأخير للهرب. هربت بملابسي السوداء المفروضة من التنظيم؛ عباءة فضفاضة وفوقها الدرع  المصنوع من القماش نفسه ليخفي تضاريس الجسد، بالإضافة إلى خمار أسود مغلق تماماً وجوارب سوداء سميكة وقفازات مثلها.

غادرت منبج بوساطة (السرفيس) مع أختي وعائلتها. وقبل وصولنا بقليل إلى الحاجز الأول تلقى المهرب اتصالاً ليخبرني بعده بأنني لن أستطيع الخروج مع أهلي بسبب التشديد الكبير من قبل العناصر، طالباً مني العودة إلى منبج ثم الرقة.

ربما الأحلام والحرية، وربما الإصرار على الهدف، هو ما دفعني للمغامرة بروحي التي كانت ستزهق بنسبة 96 بالمئة. الخيار الوحيد أمامي كان أن أستلقي على أرضية (السرفيس) من الخلف، تحت أقدام أبناء أختي الثلاثة التي ستحميني من عيونهم.

نطقت الشهادتين وقتها وواسيت نفسي وأنا مدركة بأن الحياة لا شك تستحق هذه المغامرة.

عند الحاجز الأول، سمعت صوت العنصر حين صعد إلى السرفيس دون رؤية ملامحه التي رسمتها بمخيلتي. ربما كان للدعاء والرهبة في تلك الدقائق سبباً في جعل صوت إغلاق الباب أجمل من سيمفونية محببة إلى قلبي، تلتها دعسة المازوت التي تفوقها جمالاً، فتخطيت الحاجز الأول نحو الحرية.

الحاجز الثاني كان عبارة عن محاضرة سريعة في أصول "الدولة الإسلامية" ووجوب إنهاء العلاج  في "بلاد الكفر والردة" والعودة مباشرة إلى "أرض الخلافة"، لأعود بعدها إلى سماع صوت سيمفونية الباب ودعسة المازوت، ثم اجتياز الحاجز الثاني.

لم يبق بيني وبين الحرية- الحياة سوى حاجز واحد، وحتى وصولنا إليه كانت دقّات قلبي قد تجاوزت الـ200 في الدقيقة وحرارتي كانت تكفي لتسخين فروجة بكاملها.

عند الحاجز الثالث كانت الثانية تمرّ أبطأ من خطوة فوق سطح القمر، ولكن هذه المرة لم يُفتح الباب وإنما اكتفى عناصر التنظيم بالتلويح بالاستمرار.

عند تلك اللحظة بالذات، عشت عرسي الأول وسط الزغاريد والتبريكات وتبادل القُبل؛ ذلك كان عرس الحرية، بعد أن رفعت جسدي الموجوع ونزعت عن وجهي الخمار الذي كان سبباً، يوماً ما، بجلد والدي.