بين جيل الشباب والسياسة هل ثمة أزمة؟

2020.01.02 | 15:24 دمشق

hqayq-n-alskrt-walaslmt-fy-althwrt-alswryt.jpg
+A
حجم الخط
-A

بين آونة وأخرى، ترتفع أصوات كثير من الشباب والشابّات السوريات ممن تقع أعمارهم ما بين 20 – 35 سنة، شاكيةً ممارسات التغييب والإقصاء السياسي التي تسعى إلى تجاهل دور وفاعلية هذه الفئة العمرية، لا بل تتجاهل المُنجز الكبير الذي حققه جيل شباب الثورة السورية، سواء على مستوى الحراك الثوري السلمي، أو على مستوى النشاط الإعلامي والإغاثي والخدمي والفني والنشاطات المتنوعة الأخرى، معلّلين تلك الشكوى بتجذّر نزعة الاستبداد والتفرّد لدى طبقة سياسية تنتمي إلى جيل قديم أخفق في تحقيق أي مُنجز ثوري أو مجتمعي طيلة فترة حكم آل الأسد( الأب والابن)، ووجد في ثورة آذار 2011 التي أطلقها الشباب فرصةً لتعويم أنفسهم من جديد والتستّر على جميع إخفاقاتهم السابقة، فتصدّروا المشهد السياسي بشعارات وخطابات قد تبدو جديدة، إلّا أن إخفاقاتهم المتكررة تؤكّد أن هؤلاء ما يزالون محكومين ببنى فكرية وآليات تفكير تجعلهم غير قادرين على مغادرة جدران منظوماتهم الإيديولوجية التقليدية، بل ربما ذهبت بعض الأصوات الشبابية إلى أن تكريس الوجوه التقليدية في المشهد السياسي، وبالممارسات وطرائق التفكير ذاتها، إنما هو تكريس لنهج الاستبداد الأسدي الذي انطلقت الثورة من أجل هدْمه وإزالته.

لعلّه من المؤكّد، وبعد انقضاء ثماني سنوات خلوْنَ من عمر الثورة السورية، أنه لم تجرِ أيّ عملية جدّية، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، لبحث ومعالجة غياب الدور الشبابي في الكيانات الرسمية للثورة، وغياب أو تغييب دورهم عن مكامن القرار السياسي، باستثناء بعض ورشات العمل التي تقيمها بعض المنظمات، وتقتصر على حضور أعداد قليلة، ومن هنا تكتسي مبادرة تلفزيون سوريا، من خلال برنامج ( الصالون السياسي) الذي سلّط الضوء على هذه المسألة، أهمية يُحمَدُ عليها.

وفي الحيّز المُتاح لهذه المقالة، يمكن الوقوف بإيجاز عند ثلاث مسائل:

الأولى: ثمة جفاء عام بين السياسة والمجتمع السوري، لا ينحصر في فئة عمرية أو شريحة بعينها، بل يشمل جميع شرائح المجتمع وأنساقه، ذلك أن العمل السياسي بمعناه وبمضامينه الفعلية لم يكن مُتاحاً في ظل نظام التوحش الأمني الأسدي، بل لعلّه كان تهمةً قد تودي بصاحبها إلى نتائج وخيمة، ولعلّ مكوث الآلاف من معتقلي الرأي في سجون الأسد لسنوات طويلة، تجاوزت عند البعض مدة ربع قرن، فضلاً عن التصفيات الجسدية التي طالت كثيرين منهم، خير شاهد على ذلك.

ثمة جفاء عام بين السياسة والمجتمع السوري، لا ينحصر في فئة عمرية أو شريحة بعينها، بل يشمل جميع شرائح المجتمع وأنساقه

وقد كان لهذا التحريم أو (التجريم) السياسي أثره البالغ ليس في انكفاء المواطن السوري عن ممارسة السياسة فحسب، بل في تعزيز التشوّهات الفكرية والنفسية لمفهوم السياسة في اللاوعي الجمعي أيضاً، ذلك أن الإحجام الكبير والحذر الشديد من التعاطي السياسي باعتباره مبعث خطر شديد التداعيات، مازال قائماً على الرغم من زوال أسبابه في كثير من الأحيان، ولعلّ عبارات التبرؤ من الانتماء السياسي لدى كثير من السوريين، باتت من العبارات المألوفة، إذ غالباً ما يفتتح كثير من المثقفين كلامهم بالقول: (أنا مالي علاقة بأي جهة أو حزب سياسي، أنا مستقل)، يقولها بنبرة المُتهم الذي يحاول إبعاد شبْهة يخشى أن تطاله، ثم إن النطق بالتشديد على عبارة (أنا مستقل) توحي برفض مطلق لأي عمل سياسي جمعي، فضلاً عن كونها حصانة من تهمة قد يضمرها الشخص المُخَاطَب.

الثانية: لئن اعتقد جيل شباب الثورة في سوريا أن الطبقة التقليدية التي تمارس السياسة في مرحلة ما بعد انطلاقة الثورة، هي تلك الشريحة التي يتوزّع وجودها في الكيانات الرسمية للثورة (المجلس الوطني ثم الائتلاف، ثم هيئة التفاوض، ثم اللجنة الدستورية)، وإن هذه الكيانات هي التي حالت دون حضور وازن للعنصر الشبابي الثوري في صفوفها، فينبغي القول: إن هذه الكيانات لم تقطع الجسور بينها وبين القطاعات الشبابية فحسب، بل بينها وبين جميع البنى السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، ولئن كان من الصحيح أن نشأتها كانت تلبي حاجة وطنية آنذاك، إلّا أن طريقة تصنيعها كانت محكومة بالنفوذ والإرادات الإقليمية والدولية، التي منحتها شرعيتها، وبحكم طبيعة القائمين عليها وانتماءاتهم الإيديولوجية والسياسية، وكذلك بحكم طبائعهم الشخصية، لم تسع تلك الكيانات، بعد مرور أعوام على تشكيلها، إلى استبدال شرعيتها البرّانية (الإقليمية والدولية) بشرعية وطنية تستمدّها من السوريين، ولعلّ هذا ما جعلها تعمل في محيط معزول – ميدانياً وسياسياً واجتماعياً - عن جميع شرائح الثورة، وما تزال حتى الآن تكتفي بممارسة دور (وظيفي)، ربما استدعته المصالح الخارجية أكثر مما تستدعيه الحالة الوطنية.

الثالثة: بعد انطلاقة الثورة، لاحت في المشهد السوري اندفاعة كبيرة نحو تشكيل أحزاب وتجمعات وتيارات سياسية، تحاول شحن خطابها بمفاهيم جديدة، تقترب من الحداثة، في محاولة لمقاربة تصورات جديدة في بناء الدولة، واستلهام قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولعلّ مجمل هذه الاندفاعات ما تزال تراوح في مسار متعثّر، إذ لم تشهد الحالة السورية بعدُ، ولادة كيان سياسي استطاع أن يرسم علامة فارقة في المشهد السياسي السوري، ربما يعود ذلك لأسباب عديدة لا يتسع المجال المتاح لذكرها، ولكن تنبغي الإشارة إلى السبب الأبرز، وهو افتقادها للعامل الأهم، وأعني اغترابها الجغرافي والفيزيائي عن الوطن الأم، بحكم نشأتها خارج الأرض السورية. ولكن على الرغم من تعثّر مسار هذه المحاولات، إلّا أنها تجسّد حراكاً يفصح بالحاجة إلى بناء نوى سياسية يمكن البناء عليها، أو تصلح أن تكون مشروعاً تراكمياً يكتسي بعض الخبرات والتصورات اللازمة والضرورية لأي إطار سياسي مستقبلي.

بعد انطلاقة الثورة، لاحت في المشهد السوري اندفاعة كبيرة نحو تشكيل أحزاب وتجمعات وتيارات سياسية، تحاول شحن خطابها بمفاهيم جديدة، تقترب من الحداثة

وفي الوقت الذي كان فيه من المفترض أن تكون المساهمة الشبابية هي الرائدة في تأسيس وصياغة تلك البنى السياسية الجديدة، إلّا أن النتائج كانت على غير ذلك، إذ غالباً ما أشاح الشباب بوجوههم عنها، بل ربما نظروا إليها بمزيد من الريبة والشك حيناً، وبشيء غير قليل من اللامبالاة حيناً آخر، أما الريبة والشك فمبعثهما غياب الإرث السياسي الحزبي في تحقيق مُنجز ذي أثر بالغ في حياة السوريين، وخاصة في ظل الدور الذي تجسّده المعارضة الرسمية، والذي لا يرقى إلى تطلعات السوريين وتضحياتهم أولاً، وثانياً، لعدم قدرة القوى والأحزاب وجميع الأطراف التي هي خارج الأطر الرسمية للمعارضة، على أن تكون البديل الأفضل من نظيرتها الرسمية، الأمر الذي يعزز القناعة لدى قطاعات شبابية واسعة بلا جدوى العمل السياسي. أمّا اللامبالاة، فلعلّ مبعثها الظروف المعيشية التي يواجهها السوريون في بلدان اللجوء، والتي تصبح هي الناظم الأقوى لسلوكهم، أكثر من رغباتهم وتطلعاتهم، وربّما تحوّل العامل المادّي في كثير من الأحيان، ولدى قطاعات شبابية واسعة، من عامل كفاية معيشية، إلى عامل إغراء، فيستمرئه المرء بعد إدمانه، ولم يعد يرى في سواه إلّا ما هو نافل، وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور السلبي لما يُدعى زوراً بـ ( منظمات المجتمع المدني) التي استغلّت طاقات الشباب والشابات العلمية والإبداعية، مقابل وفرة مالية مغرية، ساعيةً إلى تعزيز القناعة لدى هؤلاء الشباب بأن العمل داخل هذه المنظمات يقتضي منهم الانفصال والتجرّد من قضاياهم الوطنية، بل إن أولى محاذير تلك المنظمات وخطوطها الحمراء – كشرط أساسي للعاملين فيها – هو عدم الاقتراب أو الانخراط في أي عمل سياسي، ما جعل كثيرا من الفئات العمرية الشبابية – ذكوراً وإناثاً – وبدافع الحاجة المادية حينا، وباستمراء الرخاء المادي حيناً آخر، لا يرى في الشأن السياسي سوى عمل مَنْ ليس لديه عمل.

ما يمكن قوله عن أزمة الشباب والسياسة كثير، والإشارة أو الوقوف عند الظواهر والأسباب المباشرة، لا يلغي الوقوف عند أسباب وتداعيات أخرى، ربما تكون أكثر عمقاً وصلة بهذه المسألة، ولعل هذا ما يوجب الاستمرار بالتفكير في هذه المسألة، وإبقاء أبواب الحديث مُشرَعةً.

 

كلمات مفتاحية