بين "تأميم السياسة" وإعادة إنتاجها

2022.02.25 | 05:53 دمشق

thumbs_b_c_0e8edb240ad93a1611065290945edddb.jpg
+A
حجم الخط
-A

تجسّد حالة الاستعصاء السياسي والتي تتزامن مع استمرار المأساة الحياتية لدى جميع السوريين، حالة كبيرة من الخوف لم يعد مبعثها تشظّي الحاضر وتمزّق الجغرافية السورية وتعدّد سلطات الأمر الواقع واستعداد السلطة الأسدية للتماهي مع كل أشكال الخراب في سبيل ديمومتها كسلطة فحسب، بل ربما ثمة (خوفٌ مُركّب) يتمثّل شطر منه في الجانب الموضوعي للمشكلة، أعني مجمل أشكال العدوان التي تمارسها الطغمة الأسدية وحلفاؤها في الداخل والخارج، في حين يتمثّل الشطر الثاني من هذا الخوف في سيرورة مآلات المعارضة الرسمية التي وإنْ تمايزت عن الطغمة الأسدية أخلاقياً وشعاراتياً، إلّا أن هذا التمايز لا يمكن أن يكون مُقنعاً لجمهور الثورة، ما لم يكن مرادفاً حقيقياً لمُنتجٍ ثوري جوهري وسلوك يتماهى مع مقدار المسؤولية التي تتنطّع لها تلك المعارضة.

في مواجهة هذه الحالة الكارثية للمشهد الراهن يحتاج السوريون إلى مبادرات فكرية وسياسية جدّية تنبثق من وعيٍ قادرٍ على مقاربة الجذر الحقيقي للمشكلة، ومجرّدة في الوقت ذاته من جميع النوازع النفعية والشخصية سوى من إخلاصها وتماهيها مع تطلعات السوريين نحو التحرر من العبودية والعبور نحو مستقبل خالٍ من كل أشكال التسلّط والظلم، وجدير بحياة حرّة كريمة لجميع السوريين، كما يمكن التأكيد على أن جميع الإجراءات ذات النزعة الترقيعية التي تقوم بها المعارضة أو توحي بها بين الحين والآخر، لم تعد قادرة على إقناع كثير من السوريين بجدواها، بل ربما بدت في كثير من الأحيان خاذلة لتوقعات جمهور الثورة، نظراً لانعدام مردودها الفعلي على الواقع الراهن.

وانطلاقاً من هذا الواقع الصريح والصادم للمشهد السوري المعارض، وكذلك انطلاقاً من حاجة الثورة إلى أفكار ثورية إبداعية تنبثق من سيرورتها وليس من خارج فضائها، يمكن الوقوف بكل جدّية حيال المبادرة التي أطلقها الكاتب مضر الدبس، وذلك من خلال مجموعة من المقالات كان قد نشرها تباعاً في صحيفة العربي الجديد، وثمة مقالتان، من بين تلك المقالات، تختزلان جوهر أطروحة الدكتور مضر الدبس، الأولى بعنوان ( بيان تأميم سورية – محاكاة قرار تاريخي لحل نهائي – نُشرت بتاريخ 22 – 11 – 2021 )، والثانية بعنوان : ( مجدداً .. لماذا بيان تأميم سورية – نُشرت بتاريخ 23 – 2 – 2022 )، تهدف المقالة الأولى إلى وجوب تجاوز ثنائية – النظام والمعارضة – باعتبار الطرفين ينتميان من حيث التفكير إلى ما يمكن تسميته بالجانب الذاتي من العلم، أي ما يطابق مفهوم (العقل المستقيل) بحسب تعبير المرحوم محمد عابد الجابري، وإن كان ثمة ما يميّز المعارضة عن النظام – على المستوى الأخلاقي – إلّا أن المعين الفكري الذي يوجّه سلوكها وطرائق تفكيرها والذي ما يزال رابخاً في  (وعيها، ولاوعيها معاً)، هو المعين الفكري ذاته الذي يستمد منه نظام الأسد صلفه وجبروته واستعلاءه على المواطنين، لذلك لا يرى الكاتب بدّاً من (تأميم السياسة)  - كفعل تحرري -  من الطرفين معاً، وإعادتها إلى الإنسان (السوري العادي) الحامل الحقيقي والناهض الفعلي بثورة آذار 2011 ، ولئن بدت المقالة الأولى أكثر احتفاءً بالجانب النظري من الأطروحة، كونها تتحدث عن طبيعة الوعي لدى الأطراف الفاعلة في السياسة، فإن المقالة الثانية حاولت توضيح أو تبيان الخطوات الإجرائية أو الوسائل العملية لفكرة (تأميم السياسة)، وقبل الشروع في مناقشة الإجراءات العملية التي يقترحها الدكتور مضر ، كتجسيد عملي لأطروحته، والتي قد نختلف  مع الكاتب حول بعض تفاصيلها، ينبغي الإشارة، ولو بإيجاز شديد، إلى أهم ما ميّز تلك الأطروحة، أو ما أوجب الوقوف عندها عموماً:

1 – لعل حاجة السوريين إلى التخلّص من طور العبث السياسي القائم على المبادرة الارتجالية وردّات الفعل الآنية تبدو شديدة أكثر من أي وقت مضى، بل إن ممارسة السياسة استناداً إلى مفاهيم (الحربقة والبهلوانيات) والرغبة في التجريب والقدرة على التسلّق والتهويمات الإعلامية والكلامية، لم تفض سوى إلى مزيد من الكوارث، فضلاً عن أن ثورة قدّم فيها السوريون تضحيات عظيمة لا يليق بها سوى فهمٍ للسياسة ينطلق من الفكر أولاً، ووعيٍ قادرٍ على المقاربة الدقيقة بين الفكرة والأثر السياسي المنبثق عنها، ومن هنا يأتي تأكيد الدكتور مضر على ضرورة استلهام الكشوفات الثقافية لثورة 2011، باعتبارها أحدثت نقلةً نوعية في الوعي السوري، وكذلك تأكيده على تجاوز الوعي المحايث لمجمل الإيديولوجيات التقليدية الملازمة للاستبداد والمُنتِجة له بآن معاً.

لعل حاجة السوريين إلى التخلّص من طور العبث السياسي القائم على المبادرة الارتجالية وردّات الفعل الآنية  تبدو شديدة أكثر من أي وقت مضى

2 – لعلّ أي فكرة، مهما كانت عميقة وجذرية وذات امتدادات فلسفية، إنما تكتسي قيمتها الجوهرية من إمكانية تحويلها إلى مشروع عام، كذلك من قدرتها على الاندماج والتفاعل مع الوعي العام ، وعندئذٍ تغدو حاملاً من حوامل التغيير، وليست ضرباً من الترف الفكري أو النزوع الثقافوي فحسب، ولهذا لا يمكن الركون إلى بعض الآراء التي تحاول أدلجة أي فكرة من خلال الإصرار على جعلها أسيرة مرجعيتها الفلسفية، بعيداً عن سياقاتها الاجتماعية والثقافية، كقول البعض على سبيل المثال: إن مصطلحات من مثل ( الإنسان العادي – العمومي) كما جاءت في مبادرة الكاتب مضر الدبس هي مستقاة من مفهوم (الفضاء العام ) كما ورد لدى عالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس.

بالعودة إلى فحوى المقالة الثانية، والتي تقترح إجراءً أو ترجمة عملية لفكرة المبادرة، نجد الكاتب يرى أن (الطرح العملي الآن هو ابتكار جماعة سياسية تكون بمنزلة هيئة تحرير وطنية واسعة ........ تفرض قراراتها السياسية باسم السوريين وتستمد قوتها منهم لفرض خياراتهم..... وتحقق الانتقال السياسي واستعادة الوطن) ولعل هذا المقبوس يتقاطع مع مقبوس آخر ورد في المقالة الأولى للكاتب، وتحديداً في البند الرابع من المبادئ الوطنية الناظمة لتأميم الحياة السياسية في سوريا: (العمل على إنشاء هيئة تحرير وطنية تتسلم ملفات السياسة السورية...... وتحضّر نفسها لتكون هيئة حكم انتقالي....).  

ما يمكن استخلاصه هو ضرورة إيجاد الإطار التنظيمي لمشروع (السوري العادي)، جماعة سياسية – حزب – تيار – تجمع إلخ، وهذه مسألة تبدو شديدة الأهمية، كخطوة للانتقال من العمل الفردي إلى الفعل الجماعي، كما أن تسمية تلك الجماعة السياسية بـ (هيئة تحرير وطنية) تبدو مناسبة، لأن طبيعة المواجهة الراهنة بين جمهور الثورة من جهة، والنظام وحلفائه من جهة ثانية، باتت معركة تحرر وطني أكثر من كونها صراعاً على السلطة بين نظام ومعارضة، ولكن مكمن الخلاف مع مقترح الدكتور مضر يأتي حول الدور المُنتَظر لتلك الجماعة السياسية أو الهيئة كما سماها، والتي يرى الكاتب أن عليها أن تتولّى عملية الانتقال السياسي، عبر انتزاعها لمقاليد الأمور من المعارضة والنظام معاً، وحول هذه المسألة يمكن إبداء الملاحظات التالية:

أولاً: إن العملية السياسية، بما فيها بند (عملية الانتقال السياسي) صحيح أنها ذات مرجعية أممية، ولكنها محكومة بإرادات الدول النافذة والمتغوّلة في الشأن السوري، وإن أي مسعى من جهة وطنية جديدة للإمساك بزمام العملية السياسية سيجعل هذه الجماعة الجديدة في مواجهة مزدوجة، طرفها الأول هو الدول النافذة ذات المصلحة بالتحكم بالقضية السورية، وطرفها الثاني هو الكيانات الرسمية للمعارضة التي ترفض مغادرة مواقعها، ولا تتردّد في سبيل استمرارها في مواقعها عن الاستقواء على منتقديها بسطوة الدول صاحبة الوصاية عليها.

ثانياً: لعل المشروعية الحقيقية لأي جماعة سياسية تسعى إلى (تأميم السياسة) إنما تنبثق من جمهور الثورة (الإنسان العادي) وفقاً لما جاء في المبادرة المذكورة، وليس من جهات دولية أو خارجية مهما بلغ مقدار نفوذها وتغوّلها في الشأن السوري، وهذا ما يوجب على تلك الجماعة الجديدة أن تستلهم في عملها أو مسعاها ما يؤرق المواطنين السوريين أو ما يرونه من الأولويات، وأعتقد أن أولويات السوريين الراهنة هي غير أولويات المعارضة الرسمية.

ثالثاً : لعل الحوامل العملية لنجاح  أي جماعة سياسية جديدة في سوريا، إنما تكمن في نجاعة وصوابية برامجها، وقدرة هذه البرامج على استعادة القضية السورية من أيادي اللاعبين الخارجيين، ولعله من النافل القول: إن القضية السورية ليست مفهوماً مجرداً، بل يمكن تحديدها بمفردات بسيطة (المعتقلون والمعتقلات – المُهَجّرون من بيوتهم وديارهم – النازحون في المخيمات – المقهورون تحت نير سلطات الأمر الواقع – رفض تعويم وإنتاج الطغمة الأسدية – رفض الالتفاف على القرارات الأممية – التصدي للعابثين بالمصير السوري .......إلخ)، أعتقد أن من يملك القدرة على تحقيق نسبة من النجاح ، ولو كانت محدودة، في مقاربة جدّية لتلك المفردات، فإن هذا النجاح على الرغم من نسبيته، سيكون السبيل الصحيح لاستعادة (الإنسان العادي) للسياسة وللقضية معاً، ولعل هذا السبيل -  أيضاً – هو الأجدى في تحييد قوى العطالة والخراب. وأخيراً يمكن التأكيد أن تلك الملاحظات لا تدّعي أنها تقدّم تصوّراً ناجزاً لبرنامج عمل سياسي، وهي بالتالي ليست أكثر من مساهمة في نقاش فكرة تستحقّ التفكير، وتوجب مزيداً من الحوارات.