بين بيرون ونيرون

2020.07.06 | 00:01 دمشق

1913.jpg
+A
حجم الخط
-A

يمكن القول إن موت سقراط كان هو الحد الفاصل في الثقافة اليونانية. صحيح أن أعمال أفلاطون ستظهر بعد ذلك، غير أننا بدأنا نهبط إلى وديان الثقافة الهلنستيّة، وبدأ يظهر في الفلسفة عدد من الحركات الجديدة.

فقد عاش ديوجين حياةً تماثل حياةَ الكلب في بدائيّتها، مما أكسبه لقب " الكلبي". وكان جوهر التعاليم الكلبية هو الانصراف عن المِتع الدنيويّة والتركيز على الفضيلة بوصفها الشيء الوحيد الجدير بأن نمتلكه، ومن الواضح أن هذه إحدى الأفكار الموروثة عن مذهب سقراط، غير أنّها تمثّل ردَّ فعلٍ سلبيّـاً إلى حد ما على أحداث العالم. صحيح أنّه كلّما ضَعُفَت روابطُ المرء بالعالم قلّ احتمالُ إصابته بالأذى أو خيبة الأمل، غير أن مثلَ هذه المنابع لا يُتوقّع منها أن تُلهمَ المرءَ أيَّ شيء يزيد عن ذلك، ولقد تحوّل المذهب الكلبي، بمضيّ الوقت، إلى تراث قوي واسع الانتشار، وأصبح له في القرن الثالث قبل الميلاد تأييد شعبيّ واسع في جميع أرجاء العالم الهلنستي.

وبالطبع فإن كل ما يعنيه ذلك هو أن شكلاً متدهوراً من التعاليم الكلبية أصبح يعبر بصدق عن الأوضاع الأخلاقية للعصر، وكان ذلك نوعاً من الموقف الانتهازي من الحياة، يغترف منها بكلتا يديه إن كان هناك ما يؤخذ، ولكنّه لا يشكو في أوقات العسر، ويستمتع بالحياة حين يُمكنُ الاستمتاعُ بها، ولكنّه يقبل صروفَ الدّهر بغير اكتراث.

وهناك نتاج آخر، مختلف إلى حدٍّ ما، لفترة التدهور الفلسفي هذه، هو حركة الشكّاك، وإذا كان اسم هذه الحركة مستمَدّاً من مجرّد الشك أو الارتياب، فإنّ المذهب بوصفه فلسفة، يرتفع بالشك إلى مرتبة العقيدة الراسخة. فهو ينكر أن يكون في وسع أيّ شخص أن يعرف أيَّ شيء معرفة يقينيّة، ولكنّ المشكلة بالطبع هي أنّ المرءَ يودّ أن يعرف من أين جاء الفيلسوف الشَّكّاك بهذه المعلومة. فكيف يعرف أنّ الأمر كذلك إذا كان موقفه ينكر صراحةٍ إمكانَ المعرفة؟

ولقد كان أوّل الفلاسفة الشُكّاك هو بَيرون، الذي طاف العالم مع جيوش الاسكندر، ولم تكن التعاليم الشكّاكة شيئاً جديداً، لأننا رأينا الفيثاغوريين والايليين من قبل يُثيرون الشكوك حول إمكان الثقة في الحواس، على حين أن السفسطائيين استحدثوا مفاهيم مماثلة اتّخذوها أساساً لنسبيّتهم الاجتماعية والأخلاقية، غير أن أحداً من هؤلاء المفكّرين لم يجعل من الشك في ذاته قضية رئيسية.

كان بَيرون أقدم الشُكّاك، وهؤلاء اعترفوا بعدم العثور على مقياس أكيد للحقيقة. فالمذاهب الفلسفية يناقضُ بعضُها بعضاً، وكلّ قضيّة تحتمل السلب والإيجاب، لذلك فإنه لا مفر من التوقّف عن إصدار الأحكام. أي على الفيلسوف أن يجيب بـ (لست أدري)، على الأسئلة التي تُوجَّه إليه. ومن هنا جاءت اللا أدرية التي ترى أن الحواس عرضةٌ للضلال والخطأ لا يمكن أن تُتّخَذَ إماماً وهادياً. كما أن التقاليد ليست بأحسن منها حالاً لأنها تختلف باختلاف الأوطان، وليس للعقل قدرةٌ مطلقة. ويتساءل الريبيّون عمّا إذا كان يجب علينا أن نصدّق الكذّاب الذي يعترف لنا بأنه كذّاب؟. كما أنه لا يمكن التمييز بين الواقع والحلم: فالوحش الذي يطاردنا في الأحلام ليس أقلَّ ترويعاً لنا من وحوش الغابة. أما مدرسة الإسكندرية قد نشأت بعد أن استقرّت الحضارة اليونانية في مصر بعد فتح الإسكندر لها، ونشأت فيها مراكز علميّة برز خلالها اقليدس وأرخميدس، وفي الفلسفة برز أفلوطين، وعُرفت مؤلفاته بـ "التاسوعات" وترجم له العرب كتاب "الربوبيّة". ونتج عن ذلك أن حاول الفلاسفة العرب التوفيق بين أفلاطون وأرسطو وهم في واقع الأمر يوفّقون بين أفلاطون وأفلوطين المتشابهَي المذهب. وتُنسب نزعة الأفلاطونية المحدثة إلى أفلوطين.

اشتهر أفلوطين بنظريّته في الفيض، فالله عنده هو الواحد أو "الأوّل" وهو ينبوع الوجود ومبدأ الكل، وبما أنّه كمال مُطلَق فهو لا يحتاجُ إلى شيء، وهو لا يخضع للضرورة في خلقه للكون، بل إنه أبدعَ هذا الكونَ عن جودٍ وطيبٍ وإحسان. فهناك قانون نرى من خلاله أنّ كلُّ من يبلغُ الكمالَ من الكائنات يُنجبُ كائناً آخر مشابهاً له. فالنار تبعث الحرارة، والزهرة لا تُمسك أريجَها عن أحد. وقد تشعّبت الأفلاطونية الجديدة إلى ثلاثة فروع: فرع الإسكندرية، وفرع سوريا، وفرع أثينا.

وقد أغلق الإمبراطور جوستنيان مدارسَ الفلسفة في أثينا وكانت الفلسفة قد فقدت مكانتها في الإسكندرية. وانتهت بذلك الفلسفة اليونانية التي وصلت إلى العرب، فيما بعد عن طريق الترجمات لمؤلّفات أرسطو وغيرِه من الفلاسفة.

المسألة الأولى التي ستثيرها الفلسفة الروحية ومن بعدها الفلسفة الإسلامية هي علاقة الدين بالفلسفة ومحاولة التوفيق بينهما. فإلى جانب المتديّنين المنكرين للفلسفة أو الفلاسفة المنكرين للدين، نجد التيّار الذي يحاول إغناء العقيدة بالفكر أو تلقيح الفكر بمعطيات الإيمان الروحيّة.

*      *      *

بعد تأسيس الحضارات الأولى وإرساء دعائمها، مرّت الإنسانية بفترات جدب كان سببها المعارك والكوارث الطبيعية التي جعلت الأفكار في ارتداد انكفأ أصحابها لمعالجة جراح ذويهم، واكتفوا باجترار الماضي كاتّكاء لابُدّ منه حتى تبزغَ شمس أفكار جديدة وسط ظروف سانحة للتقدّم، لذا، نمرّ معاً بشكل سريع على الفترة الواقعة بين ثلاثمئة قبل الميلاد والقرن السابع الميلادي حيث أشرق فجر الحضارة العربية الإسلامية. وحتّى ذلك الحين نلمح أفكاراً قليلة كان لها دور في تغيير العالم أو في تغيير نظرة الإنسان إليه. ومن بين الذين ظهروا في ذلك الوقت، أرخميدس.

كان أرخميدس عالماً يونانياً شهيراً عاش حوالي سنة مئتين وخمسين قبل الميلاد. وقد حدث أن أمر ملك سيراكوس بصنع تاج جديد له من الذهب الخالص، فلمّا تمّ صنعه، ساور الملك الشكَّ في أن يكون الصانع قد أضاف إلى الذّهب قليلاً من معدن آخر، فاستدعى أرخميدس وأمره أن يتحقَّقَ من صفاء الذّهب دون أن يكسرَ التّاج.

وبينما كان أرخميدس يستحمّ وأتته الفكرة التي يستطيع بها أن يتحقّق من الأمر، فخرج من الحمّام عارياً وأخذ يعدو إلى بيته وهو يصيح: يوركا.. يوركا.. أو أوريكا.. أوريكا.. أي: وجدتها.. وجدتها. وبدأ أرخميدس بوزن التاج في الهواء كالمعتاد، ثم وَزَنه وهو مغمور تحت الماء. ومن الطبيعي أن يقلَّ وزنه وهو في الماء عن وزنه في الهواء، والفرق بين الوزنين هو وزن الماء المزاح. ومنه استطاع أرخميدس أن يحسب مقدار زيادة وزن المعدن الذي صُنع منه التاج عن وزن الماء، وبذلك تمكّن من التحقّق مما إذا كان وزن التاج هو وزن الذهب الخالص نفسه أو أقل، واكتشف أن الرصاص قد أضيف إلى الذهب في التاج، لأنّ وزن الذهب أكبر من وزن الرصاص.

بحث أرخميدس في مجالات الهندسة والحركة والثوابت المائية، وساعدت نظريّاتُه غاليليو ونيوتن وغيرهما من العلماء.

أمّا الإمبراطور الروماني نيرون فقد أصبح كسلفه كالينور مجنوناً تماماً. كانت بداية حكمه جيّدة، ولكنّه كان ضعيفاً، سهل التأثّر بأمّه، اندفع في الطغيان والفسوق، وقد تكون النار العظيمة التي كادت تدمّر روما، قد بدأت بأوامره. وحتّى لو لم تكن كذلك فكما تقول الأسطورة، وقف يتأمّل الحريق وهو يضرب على قيثارة. اندلعت النار في عدة متاجر، وما لبثت أن توهّجت بعنف بالغ، وبينما كان هو يحاول أن يكتب قصيدة يصف فيها الحريق، انشغل الجميع في إخماده.

وهذا ما دعا الشاعر محمود درويش إلى الاستعانة بتلك المشهدية التي تشبه الكسوف فقال:

يا داميَ العينين، والكفّين

إنّ الليلَ زائل

لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ

ولا زَرَدُ السلاسل

نيرون مات، ولم تمت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلةٍ تجفُّ..

ستملأُ الوادي سنابل

 

وبالفعل، فقد قامت ثورة عارمة على نيرون ممّا دعاه إلى الانتحار بعد أربع سنوات من نشوب الحريق في رومـا.