بين الميداني والسياسي: من باع إدلب؟

2019.08.19 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يا شباب مدايا عدو...

منفي...

أخي سقطت منذ قليل...

ما زال جيش النظام في مقبرة البلدة ولم يدخلها...

تم التأكيد، مدايا صديق الآن، الساعة الثانية ليلاً...

للأسف، مدايا عدو منذ الفجر...

الثوار يستعيدون السيطرة على مدايا...

مصدر عسكري على الأرض، مدايا عدو...

هيئة تحرير الشام تستهدف قوات النظام في مدايا بعربة مفخخة يقودها استشهادي...

يمثل تبادل السيطرة، خلال ساعات، على هذه البلدة الصغيرة في ريف إدلب الجنوبي نموذجاً عن المعارك العنيفة التي دارت الأسبوع الماضي وأسفرت عن تقدم النظام.

يقول المقاتلون وإعلاميوهم إن ما جرى هو نتيجة عسكرية مفهومة لعوامل مرجّحة لجانب الأسد وحلفائه. ففضلاً عن سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها الطائرات «السورية» والروسية وكثافة نيرانها؛ زجّت القوات المهاجمة بعناصر بشرية جديدة في المعركة التي لم تستطع التقدم فيها جدياً خلال مئة يوم، ومن هؤلاء مقاتلو شركات خاصة روسية بعتاد وتدريب مميزين، وكوادر ميليشيوية موالية لإيران من حزب الله وغيره. كما أن قوات النظام البرية لم تعد تتركز في الفيلق الخامس وقوات النمر بل تعدتها إلى الفرقة الرابعة ووحدات أخرى.

هل يبدو الأمر منطقياً؟ نعم. لكنه مخيّب لقطاعات من الناس أبرزهم، بالطبع، السكان الذين تتسارع حركة رحيلهم وكثافتها مع كل خسارة، في ظروف بالغة الترويع والقسوة وغموض المصير وصعوبة النزوح، ويعاني هؤلاء كارثة إنسانية موجعة كما يرى الجميع في الإعلام. غير أن سيرة المعارك التي نقلنا طرفاً من تواترها الواقعي مخيّبة أيضاً للخيال، وهو ما يبدو أنه حاجة ماسّة للكثير من «محترفي» التحليل السياسي والميداني المزعوم على الشاشات أو هواته في المقاهي الحقيقية أو الافتراضية.

ينطلق هؤلاء أولاً من «الهواجس المشروعة» للتساؤل عن «صفقة ضمنية» تمت بين «الأطراف الدولية» المشاركة في اجتماع أستانا 13، لأن ما جرى بعده قد «أعطى انطباعاً» أن اتفاقاً «لم تعلَن تفاصيله» جرى بين «الدول الضامنة»، ربما أشار إليه صحافي روسي نقلاً عن مصادر «لم يسمّها»، يقضي بتبادل السيطرة بين إدلب وشرق الفرات أو غرب الدلتا أو عدن!

لا معنى إذاً لكل المعارك التي تجري، فهي مجرد «مسرحيات» غريبة لتسليم الأرض. ولا اعتبار لمن يُقتل فيها، فالنظام مجرد طغمة حاكمة و«لا تهمه قواته»!!

لا معنى إذاً لكل المعارك التي تجري، فهي مجرد «مسرحيات» غريبة لتسليم الأرض. ولا اعتبار لمن يُقتل فيها، فالنظام مجرد طغمة حاكمة و«لا تهمه قواته»!! أما في ضفتنا فالتفسير هيّن كذلك؛ إن كان الضحايا من الفصائل الإسلامية فيرجع ذلك إلى أنه «خلص دورهم» وصدر أمر تصفيتهم من الدول التي صنعتهم، وإن كانوا من الجهاديين فلأن الجولاني يزجّ بهم في الصفوف الأولى ليقضي عليهم ويتخلص من معارضتهم المتشددة لمساره، وإن كانوا من فصائل الجيش الحر فالأمر أيسر بعد أن «اتضح للجميع» أن هذا المقاتل الوطني المخلص الشريف هو هدف «المؤامرة» التي يشارك فيها العالم بأسره للقضاء على الثورة!!

الحقائق غير مهمة، ولكل مصادره الغامضة، والغلبة للصوت الأكثر شعبوية. بإمكانك الحديث عن توقف الدعم متجاهلاً من يؤكد استمراره. تستطيع نسبة كل الإنجازات للانغماسيين المجاهدين إن كان فصيلك إسلامياً، ويمكنك الزعم أن الجيش الحر «من أبناء الأرض» هو وحده من يقاتل بضراوة، في حين تمتنع هيئة تحرير الشام عن الزج بقوة تتناسب مع حجمها وسلاحها الثقيل. تقدِر أن ترمي تهم الخيانة وتنفيذ «الإملاءات الخارجية» في أي اتجاه: إن سكت الائتلاف فهو شريك في الصمت الدولي وإن تكلم فما نفع البيانات؟ الجبهة الوطنية للتحرير حتى لو كانت معلوماتك عن مشاركتها ناقصة. الجيش الوطني سواء أتى متأخراً أو لم يأت، فهو مرتزق على كل حال. ليس عليك إلا أن تصرخ بأعلى صوتك منادياً بفتح الجبهات، ولا سيما الساحل. اشتم من لا يوافقك من الفصائل وتغزّل ببطولات مقاتلين يناسبون توجهك، يرابطون على الثغور ويسرقون لحظات من النوم لماماً!

باختصار... كن أي شيء إلا خبيراً سياسياً أو عسكرياً كما تقول صفتك المعلنة؛ مغنياً... شاعراً... رادوداً... خطيباً... أكثر من الحديث عن «البيع» فهي كلمة جاذبة... اهجس بالتآمر... لمّح... عرّض... هاجم... حرّض... تباكَ.

من المؤسف فعلاً أن الثورة لم تحظَ بمحللين أفضل وهي تواجه القيامات المتتالية دون دليل ولا بصيص رؤية. ومن المحزن أن تتحول قراءة الواقع الميداني وسياقه السياسي واستشراف المستقبل إلى مهنة سهلة للكثيرين لا تتطلب سوى مزيج العلاقات و«البريستيج» والمعلومات المضطربة المتناثرة، دون جهد نزيه يستحق قاطنو المناطق المحرّرة أن يُبذل ليقدم لهم ما يعينهم على فهم التيه الذي يعيشونه منذ سنوات ويزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.