بين المنطقة الآمنة واتفاق أضنة

2019.01.28 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

توجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موسكو وفي جيبه العرض الأميركي بصدد "المنطقة الآمنة" بعمق 32 كم، وعاد إلى بلاده وفي جعبته "اتفاق أضنة" الأمني، "هدية" من صديقه بوتين مع أن ثمنها مدفوع من غير كيس بوتين.

ليس "العرض" الروسي غريباً، فهو لا يكلفها شيئاً، بل يجعلها تربح اعترافاً تركياً بشرعية عميلها السوري الذي هو طرف في الاتفاق المذكور. بل الغريب هو تلقف أردوغان للاقتراح واعتباره بمثابة "مخرج قانوني" لشرعنة تدخله العسكري في الأراضي السورية. مع أن الاتفاق المذكور يحدد عمق 5 كلم فقط لتدخل عسكري محتمل بهدف ملاحقة "الإرهابيين" الذين حددهم الاتفاق بحزب العمال الكردستاني، وهو لا يشمل حزب الاتحاد الديموقراطي أو وحدات حماية الشعب اللذين لم يكونا موجودين وقت توقيع الاتفاق، ولا تعتبرهما موسكو، ولا النظام الكيماوي، منظمتين إرهابيتين.

ترى هل يسعى أردوغان، بترحيبه هذا باستعادة اتفاق أضنة، لابتزاز واشنطن استدراجاً لعرض مقبول، تركياً، بشأن تفاصيل مضمون المنطقة الآمنة بما يلبي الهواجس الأمنية والطموحات التوسعية لتركيا؟ أم أن الاتفاق المذكور بات بمثابة طوق نجاة لسياسة تركيا السورية المهددة بالإفلاس، والمخرج الواقعي للخروج من المغامرة السورية بأقل الخسائر؟

لا تعارض بين الاحتمالين، فإذا حصلت أنقرة على ما تريد من واشنطن، تفويضاً كاملاً باجتياح شرقي نهر الفرات، مع دعم لوجستي وغطاء جوي، وبإدارة المنطقة

إذا امتنعت واشنطن عن تلبية المطالب التركية الباهظة فمن شأن إعادة تفعيل اتفاق أضنة أن يمنح تركيا نوعاً من التعويض المقبول عن خسارة رهانها القديم على إسقاط النظام

لفترة مديدة إلى حين تبلور حل دولي نهائي للصراع في سوريا وعليها، على غرار ما هو قائم في منطقتي "درع الفرات" وعفرين، تكون، بذلك، قد حققت هدفها الأساس المتمثل باختراق "الكوريدور الكردي" المحاذي لحدودها الجنوبية في أكثر من جيب، وإبعاد "وحدات الحماية" عن المنطقة الحدودية بضمانة أميركية. وربما يراهن أردوغان على استجابة ترامب لمطالبه من خلال ابتزازه بالقبول بإعادة تفعيل اتفاق أضنة بضمانة روسية، الأمر الذي ينطوي على تكريس العلاقة التركية – الروسية على حساب العلاقة مع واشنطن وحلف الأطلسي.

أما إذا امتنعت واشنطن عن تلبية المطالب التركية الباهظة فمن شأن إعادة تفعيل اتفاق أضنة أن يمنح تركيا نوعاً من التعويض المقبول عن خسارة رهانها القديم على إسقاط النظام، وذلك من خلال تحصين حدودها الجنوبية ضد المخاطر المحتملة.

لكن للاحتمال الثاني تبعات كبيرة، لعل أهمها تخلي تركيا عن الفصائل السورية المسلحة التي تتبعها، وما يعنيه ذلك من فقدان أي ورقة ضغط يمكن لتركيا استخدامها في المسارات السياسية للتسوية. أضف إلى ذلك أن العودة إلى اتفاق أضنة سوف يستتبع مطالبة روسية - أسدية بانسحاب القوات التركية من منطقتي درع الفرات وعفرين، على أن يبقى شريط أمني بعمق 5 كلم، كما نص الاتفاق القديم، كمنطقة عازلة.

أما بالنسبة للوحدات الكردية، وكامل "منظومة" حزب العمال الكردستاني، فمجرد ذكر اتفاق أضنة يسبب له قشعريرة خوف واستعادة لأسوأ الذكريات في تاريخ الحزب. ففي إطار الاتفاق المذكور تلاقت مصالح أنقرة والنظام السوري ضده، فطرد عبد الله أوجلان من دمشق، ليلقى القبض عليه، بعد أشهر قليلة، ويساق إلى تركيا حيث سيحكم عليه بالسجن المؤبد في جزيرة إمرلي، وفي عزلة تامة محروماً حتى من رفاق سجن.

وفي إطاره تم اعتقال عشرات من كوادره السوريين، وتسليم عشرات آخرين من حاملي الجنسية التركية إلى تركيا. باختصار، اتفاق أضنة هو حرب أسدية – تركية مشتركة

التداعيات الكبيرة للبديل الثاني (اتفاق أضنة) قد ترجح احتمال الابتزاز التركي لواشنطن أكثر من كونه خياراً عملياً أمام أردوغان

ضد الحزب. ويعني استعادة العمل به أن مفاوضات "مجلس سوريا الديموقراطية" – المتوقفة حالياً - مع دمشق ستصبح بلا موضوع، ولن يعود أمام الفرع الكردي لحزب العمال الكردستاني غير الاستسلام التام أمام النظام.

الخلاصة أن التداعيات الكبيرة للبديل الثاني (اتفاق أضنة) قد ترجح احتمال الابتزاز التركي لواشنطن أكثر من كونه خياراً عملياً أمام أردوغان. وعلى أي حال لا يعطي مشهد الصراع السوري، في لحظته الراهنة، أي مؤشرات لنهاية قريبة تجعل العودة إلى الاتفاق ممكنة مع انسحاب تركي كامل، سياسي وعسكري، من سوريا. فهذا الانسحاب هو شرط لا بد منه للعودة إلى ما قبل 2011 في العلاقات السورية – التركية، حتى لو امتنع استعادة "دفء" العلاقة الشخصية التي كانت قائمة آنذاك بين الأسد وأردوغان.

هل يعقل أن بوتين الذي اقترح على ضيفه العودة إلى اتفاق أضنة لا يدرك كل هذه التعقيدات المتصلة به؟ من المحتمل أن اقتراحه وسيلة ضغط على أردوغان الذي فشل، من وجهة النظر الروسية، في التزاماته بشأن منطقة إدلب، في إطار اتفاق سوتشي الروسي – التركي الذي تم توقيعه في أيلول الماضي، لكي يقدم أردوغان تنازلاً جديداً، على غرار ما حدث في حلب الشرقية قبل عامين، قد يتمثل في التخلي عن إدلب التي يتحرق النظام وروسيا لاجتياحها. أما التطبيع التركي مع نظام الأسد، فهو مطلب روسي دائم، لا تبدو أنقرة ناضجة بعد للقبول به.

بالنسبة لواشنطن يبدو التلويح الروسي – التركي بورقة اتفاق أضنة بمثابة إخراج كامل للعامل الأميركي من معادلات الصراع في سوريا وعليها، بعد إتمام الانسحاب العسكري الأميركي المقرر في غضون بضعة أشهر. بكلمات أخرى، إذا فشلت واشنطن في إقناع تركيا بترتيبات ما بعد انسحابها، ومنها الفكرة الغامضة – إلى الآن – بشأن المنطقة الآمنة، فسوف يبقى تقرير مصير شرقي الفرات في يد ثلاثي سوتشي، ومعهم نظام دمشق، ليبقى الأميركيون خارج الموضوع تماماً، بما في ذلك خارج أي طاولة مفاوضات حول مستقبل سوريا عموماً.