بين الحَكَم والحُكم

2022.12.23 | 05:57 دمشق

بين الحَكَم والحُكم
+A
حجم الخط
-A

عند كل حدث رياضي يُستعاد الجدل البيزنطي حول وجود علاقة بنيوية بين الرياضة والسياسة أو انعدام هذا الوجود أو نفيه. كما تتطرق الحوارات والتحليلات إلى استعراض كيفية استقطاب الرياضيين في الألعاب الرياضية الشعبية من قبل الساسة أو الحُكّام لخدمة مصالحهم. كما تحتدم النقاشات حول ضرورة الفصل أو حتمية الجمع بين الملفين، أي الرياضة والسياسة. ويتشابه حوار الخنادق الثابتة هذا كما لدى الحديث عن الفن والسياسة وعند تقييم المواقف السياسية لبعض العاملين في هذا الحقل أو حتى، انعدام هذه المواقف. ويصحّ ذلك في مجالات أخرى تربط بين الحياة العامة والسياسة.

وانطلاقاً من قناعة علمية أكاد أجزم بأنها مثبتة لا حاجة لاستعراض تفاصيلها ومقوماتها في هذه العجالة، أنتمي إلى من يعتقد بحتمية الارتباط، بل التشابك، بين السياسة وكل جوانب الحياة حتى الأكثر بعداً عن السياسة بحسب ظن الكثيرين. ولهذا المبحث موعدٌ آخر. اليوم، أشارككم سؤالاً أطرحه على نفسي منذ أكثر من عقدين من الزمن وهو يتمحور حول إمكانية تشجيع منتخب رياضي تُشرف عليه سلطة مستبدة تعمل بكل أمانة لإفقار الشعب الرازح تحت نيرها وفرض الصوت الواحد ومأسسة الاستبداد وتأميم المشهد العام الذي يضم فيما يضم، الرياضة والرياضيين. هكذا سُلط، تقوم غالباً بتسخير إمكانيات كبرى لاستقطاب البارزين في الحقل الرياضي الذي تدّعي تطويره كما هي تدّعي تطوير كل شيء يمس حيوات الناس، وهي في الحقيقة لا تطوّر إلا أساليب القهر والتحكّم المستندة الى النظرية الأمنوقراطية السائدة.

الحكومات المستبدة انتبهت مبكراً إلى إمكانية تخدير الرأي العام المحلي بانتصار رياضي إقليمي أو دولي ما

وعلى الرغم من أن الانتصارات الرياضية لا تدخل في معايير احتساب درجة النمو أو مكانة الدولة اقتصادياً، وحيث لا يمكن اعتبار تطور أي لعبة يتجاوز مسألة "اللعبة" التي لا يمكن احتسابها في الزمن الضائع لنمو المجتمع والمستمر بالضياع منذ بدء بناء الدولة الوطنية، كما أن ارتفاع مستوى بلد ما في رياضة ما لا يعني أبدا إمكانية التدخل والتأثير في مقياس الديمقراطية أو احترام الحد الأدنى من الحقوق في البلد المعني، إلا أنه ملف شعبي يستحق الانتباه. فالحكومات المستبدة انتبهت مبكراً إلى إمكانية تخدير الرأي العام المحلي بانتصار رياضي إقليمي أو دولي ما. وبالتالي إمكانية تحييد جزء كبير منه، وهو الأقل وعياً والأفقر ثقافةً، إلى الاهتمام بهذا "الانتصار" والابتعاد عما يؤرق الحاكم من تُرّهات الحياة الصعبة من مأكل وملبس ومعيشة وفساد وقمع إلخ.

في سوريا، أُضيف إلى ذلك عاما الفساد والمحسوبية، كما السعي لتعميق الشرخ الطائفي وتفتيت المجتمع ليسود الاستبداد على المكونات كافة. فقد تم ضمّ عدة عوامل تتجاوز أهمية الرياضة لإلهاء الرأي العام، بحيث أصبح المضمار مفتوحا لممارسات غير رياضية لم تبدأ من تغيير تسميات الأندية بشكل غوغائي، ولم تنته بفرض النتائج عبر السلاح أو التهديد به أمام شاشات التلفزة. كما يعرف كثيرون بأن نتائج المسابقات الكروية وسواها تُعدُّ مسبقاً إلا فيما رحم ربي وللصدفة البحتة بحيث يتم تسلّل لفريق ما بقدراته الرياضية عبر قضبان ملعب السلطة. ما سبق يُبرّر للكثيرين الابتعاد عن تشجيع "منتخبهم" الوطني في أية لعبة معتبرين بأنه ملفٌّ يستخدم ببراعة من قبل السلطة للترويج ولكسب عواطف المسحوقين وإشغالهم عن الضروري في حيواتهم.

وفي السنوات العشر الأخيرة، ومع احتدام المقتلة السورية، احتدم النقاش حول تشجيع منتخبات السلطة الرياضية. فمن قائل بأنها تُمثّل مصالح ورغبات فردية مُسيطرة ولا تُمثل الوطن، إلى مُنادٍ بفصل الرياضة عن الموقف السياسي وتشجيع "أبطال" الوطن. ومن المؤكد بأن الإنسان يحار بين الموقفين رغم وضوح الصورة وتراكم المعرفة التي شهدت ملاعبها فرض نتائج ومهازل تحكيمية رديئة التمثيل ودخول رؤساء فرق بعينها إلى أرض الملعب وتهديد الحكم لتغيير النتيجة... الخ، إلا أن الجرعات الزائدة من الشعور الوطني لدى البعض، أو كما يظنونه كذلك، يدفعهم للتمسك بتشجيع منتخب "وطنهم" ولو كانت مواقفهم السياسية معارضة لسلطة الاستبداد.

لا أعتقد بأن حال الرياضة في سوريا يشبه سواه في أية دولة تسلطية حتى كوريا الشمالية

مؤخّراً، ومع بروز منتخب المغرب الكروي في كأس العالم، ساند كل السوريون هذا الفريق دون أي تردّد. من بلدان اللجوء والهجرة، إلى "حضن" الوطن، وصولاً إلى مخيمات اللاجئين. وعلى الرغم من الاستغلال السياسي الذي تم إثر النتائج المميّزة للفريق من قبل سلطة "المخزن" المغربية واعتبار النجاح هو من نتائج "حكمة ورؤية" القيادة في البلاد، إلا أن ذلك لم يسبب أي تردد في الموقف الداعم له حتى عند أشد المعارضين لسلطة الاستبداد في المطلق.

السؤال الذي يطرح نفسه، هل كلتا الحالتين متشابهتان؟ وهل يتناقض السوري مع نفسه عندما يتحمّس لفريق المغرب ويتمنى خسارة فريقه "الوطني"؟

لا أعتقد بأن حال الرياضة في سوريا يشبه سواه في أية دولة تسلطية حتى كوريا الشمالية. فغالباً ما يسعى المسؤولون إلى ضم القدرات العالية لرفع اسم منتخبهم وبالتالي استغلال ذلك البروز للتأثير في الرأي العام وإشغاله. أما في سوريا، فالحسابات مختلفة وأساليب السلطة في إدارة الملف الرياضي لا يجاريها أحد في السوء والأذيّة. لذلك كان جمهور الملاعب في حلب، يشتم "الحَكَم" وهو يقصد "الحُكم".