icon
التغطية الحية

بين "البحر" و"مسامير السفينة".. قاسم حداد بيد مبتورة

2021.11.11 | 14:32 دمشق

qasm_hdad-_tlfzywn_swrya.png
+A
حجم الخط
-A

قاسم حداد واحد من أهم شعراء العرب المعاصرين، ولد في البحرين 1948، واعتقل سياسياً عام 1973 وعام 1980، أدار العديد من المجلات وأطلق موقع (جهة الشعر). له قرابة خمسين كتاباً في الشعر والنثر وترجمت أعماله للعديد من اللغات، كما حاز على العديد من الجوائز الأدبية العربية والعالمية، وكُرّم كذلك في فعاليات عالمية عديدة.

لم يؤيد الشاعر قاسم حداد ثورات الربيع العربي، بل أظهر موقفاً رافضاً لها في عدة تصريحات ومقابلات صحفية، فحين سئل عن رأيه فيها قال: "لا أصدقها، فالدجالون جاؤوا مبكراً" (2012)، ومرة أخرى قال: "لستُ متشائماً ولكنني لست ممن يصدقون ما يحدث كما لو أنه الحقيقة، فالواقع ليس هو الحقيقة دائماً، ولست مع تقليل خطورة ما يحدث؛ إنهم يصفون ما يحدث بالربيع، ولم أعرف ربيعاً دموياً بهذا الشكل"، وامتاز موقفه بـ "الثبات" منذ انطلاقة أولى الثورات، وحين مرورها ببلده البحرين؛ قاسم حداد الشاعر والمعتقل السياسي، لم ينأ عن قضايا مجتمعه وشارعه ومكانه، بل كانت حجر الأساس في أعماله منذ (البشارة) 1970 حتى (ثلاثون بحراً للغرق) 2017، وهو الآن يطرح (دجالون) يستثمرون القضايا ويركبون موجتها، ويشكك في حقيقة الحدث وصدقيته، ويرفض إهراق الدم في مسيرة التغيير الثوري بغض النظر عن مهرقه، فما الذي يراهن عليه في الشارع العربي ليقوده ثوار (غير دجالين) وفي بنية الأنظمة ليفترض قابليتها للتغيير دون اللجوء للعنف؟ وهل يتطابق موقفه السياسي هذا مع موقفه الأدبي خلال مسيرته الشعرية الطويلة؟

سنقف عند قصيدتين بعيدتين زمنياً عن بعضهما لكنهما تنكشفان عن موقف ثابت وقديم للشاعر بهذا الخصوص، الأولى هي قصيدة (البحر) من مجموعته (انتماءات) 1982، ولنا أن نستذكر الواقع العربي وقتئذ بعد هزائم وخيبات وانهيار قضايا واختصام دام، وشاعرنا كسياسي يتفاءل بثورة قادمة تغير الواقع الرديء، ويستلهم رؤيته من قراءته الواعية للتاريخ وثوراته ومآزقه، ويستشرف لقادم مغاير ومنسجم مع منطق الزمن في التطور، فيوجِد بنية مكانية تبدأ من البحر وتتوالد في عدة أماكن ضمن ستة عشر مقطعاً يفرد دور البطولة فيها لمعتزل رمزي (عبد الماء):

"قد ينهض البحر المسجى في السواحل
راكضاً فرحاً
وأحياناً ترافقه .
ويسمع.. قالت الأخبار
إن بيوتكم ضاقت وإن السجن أوسع ما يكون
مهيأ،
والموج كان يكون فوج الرفقة
المتطاولين على النخيل

 وفي مراوحته بين الأماكن تدخل دالة السفينة والدفة والأمواج والأشجار كرموز تنوس بين الإيجابي والسلبي وفقاً لذرى وقيعان البطل الخفي وهو (الفكرة الصحيحة) أو (الثورة الأصيلة) إن جاز التعبير:

الغصن صارية وتاريخ له
ويقوم من ومض الرماد
الدفة المعجونة الكتفين بالنيران
والموج احتمال الغامض المألوف
في العينين زنبقتان أحياناً" .

 و(عبد الماء) هو المعتزل لفرادته، فيعاني من الإنكار، لكنه لا بد أن يجد الأتباع ليعلن فكرته الجلية، وقد ينهزم، وقد يموت، لكن فكرته لا تموت، إنه "نبي الزمن" وكاشف السر، مختلف عمن سبقوه، باب لمن سيتلوه، إنه الثائر على (الوراء) الطامح للأمام:

"الشارع العربي يكسر قلب عبد الماء
والمدن الغياب وسيعة
ضاقت بمن فيها

...

ويكسر كل صارية سترجع
يمسح الميناء يصمت ينطق الأشياء
هذا الموج معتزل فلا تتساءلوا
سيطل بعد دقيقتين صديقتين
...

أمعتزل؟
ويخرج من سرير الساحل الشرقي
خرقته انتظارات
وعزلته انتشار وامتزاج

...

بكى من لوعة في قاع حسرته
ولم تسمعه
غير الدفة المكسورة الودجين
لم تسمعه شقراء الجدائل وردة العينين".

تكشف قصيدة البحر إيمان قاسم حداد بحتمية الثورة وتطلعه إليها ومحددات تطلعه

في هذا النسيج الشعري الرفيع يتكلم الشاعر عن الشارع العربي في تلك الفترة التي تخلو من فكرة صاحبها ومريديه، وهو إذ يؤكد على ضرورة المعتزل الثائر يحذر من غيابه أيضاً لأنه يفتح الباب أمام ضده تماماً، وضده عند قاسم حداد فكرة وسفينة ومريدون أيضاً، لكنهم مختلفون تماماً، إذ ليست الفكرة أصيلة ولا صادقة ولا صديقة، وليست للأمام كما يؤمن بها إنما للوراء:

"فهذا الشارع العربي سوف يعود
في خشب من السفن الكريهة
فارقبوا الميناء
والشجر الذي يمشي ويكمن خلف هذي الأرض
لا تثقوا
فكل مدينة بعثت رسائلها إلى الصحراء
لسنا وحدنا
(ما ضيعونا
إنما ضاعوا بلا ماء على الصحراء)".

تكشف قصيدة البحر إيمان قاسم حداد بحتمية الثورة وتطلعه إليها ومحددات تطلعه، فهو يرى مشكلة الشارع العربي في أمرين: التفكير الماضوي، والأفكار الدخيلة المساقة ولعله يربطها بالاستعمار والدول العدوة، وربما كان الأمران سبباً لفشل أبناء جيله على هذا الصعيد كما أشار في أحد اللقاءات الصحفية، وبتلك الرؤية حاكَم ثورات الربيع العربي، فرأى المتظاهرين دعاة للطائفية وشعاراتهم مملاة من لسان غريب، وإذا لم يكونوا كذلك فالمستفيد الوحيد من حراكهم هم (الدجالون) ويقصد بهم أصحاب الدعوات الدينية والطائفية وربما المرتهنين لقوى خارجية، وعبر عن ذلك شعرياً في قصيدة (مسامير السفينة) من مجموعة (لست جرحاً ولا خنجراً) 2012 التي لا أعتبرها إلا تكملة لقصيدة (البحر) ذاتها، لكنها موغلة في التشاؤم فيُسقط عن رموزه رمزيتهم، والـغائب الدال على (عبد الماء) المتجدد في قصيدة (البحر) يصبح المخاطب في (مسامير السفينة) في مواساة جنائزية لشخص بعينه (ربما يكون الشاعر نفسه)، والأشجار تصبح الحشود، والفتية المرحون يصبحون القتلى، وخيول البحر تصبح تجاعيد البحار:

"اهدأْ قليلاً
وانتظرْ تلك الحشود تمرُّ ذاهبةً إلى الماضي
ودَعْها،
دَعْ لها مستقبلاً ينساكَ
واهدأْ
ريثما يتذكر القتلى خريطتَهم

...

لَمْلِمْ مساميرَ السفينةِ وانتظرْ
يأتيكَ موجٌ من تجاعيد البحار".

لم يكتف قاسم حداد بالتشاؤم، بل أعلن نهاية (عبد الماء) وغرق السفينة، إذن، لا ثورة على قياس تطلعه في الشارع العربي ولا أمل في قيامها:

وأنظرْ سفينتَك الوحيدةَ وهي تغرق عند رأس البحر

في حِلٍ من التأويل

شعبٌ شاخصٌ في الغيم

لم يحسنْ قراءةَ موجِه

لم يبتكرْ سفراً بلا سُـفـنٍ

ولا يُحصي مساميرَ السفينة وهي تَصْدَأُ

فانتظرْ واهدأ قليلاً

ريثما يرتدُّ بدوُ البحر عن أخلاطِهم

يأتون مضطربي العناصر

منهكين
ضغائنٌ في لغوهِم
فاغفر لهم
وأهدأ طويلاً..
ريثما يبكون

لكن جملة واحدة في رحلة طويلة مع هاتين القصيدتين تكشف عن رؤية غريبة وربما مزدوجة عند الشاعر، فهو يقول:

"ساعة في التيه أقسى من يد مبتورة..".

فإذا كانت الثورات العربية تيهاً، على حد وصفه، ولا يؤمن الشاعر بربيع أحمر، فإلامَ ترمز اليد المبتورة؟ ربما يقصد: استسلام عبد الماء العاجز (بلا فكرة أو ثورة أو مريدين) للواقع الرديء أفضل من الضياع في أفكار ماضوية أو مستوردة لأن فرادته وأهليته الثورية تأتي من حداثة فكرته وأصالتها، لكن صورة اليد المبتورة تحرض ذاكرة بصرية فورية لدى القارئ الذي يرى القتلى والأشلاء على شاشات التلفزة صباح مساء، والشاعر يقدم لذلك في القصيدة في إشارة قد تفهم على أنها للضحايا بقوله: (ريثما يتذكر القتلى خريطتهم)، أليس ذلك تعليلاً لاستمرار الاستبداد وربما تبريراً لدموية الأنظمة في حجتها المروجة للحفاظ على دولها، أيوافق قاسم حداد ويتوافق مع هذه الحجة؟ فبرأيه لا يمكن لربيع الشعوب أن يكون دامياً، فهل يمكن للأنظمة أن تكون دامية في مواجهة الحراك الشعبي الدافع باتجاه الطائفية وتفتت المجتمع كما يقترح؟ أليست تلك الأنظمة من عززت التنوع كشروخ لا كغنى ثقافي في مجتمعاتنا؟

لكن الشاعر يعبر عن موقفه أكثر في مقابلة أخرى 2016: "... لا سيّما بعد ثورات الربيع الأخيرة، تلك الّتي هزمت الشعوب عوضاً عن هزيمة الأنظمة الحاكمة الّتي بقيت على كواهلنا أكثر ضراوة وعسفاً وتشفياً" ثم يضيف: "..ليس من الحكمة التوهم أننا نمتلك جدارة الذهاب إلى المستقبل دون شرط الديموقراطية أولاً"، وهكذا تصبح رؤيته أكثر وضوحاً وتشاؤمه في (مسامير السفينة) أكثر منطقية وكأنه يعلن تكسر حلمه بثورات بيضاء وأنظمة ديكتاتورية وردية قابلة للتطور مخالفاً وصاياه المتكررة في قصيدة (البحر):

"نوافذ هذه الأرض الطرية تستوي حجراً

فلا تتكسروا

.. لا تتأخروا

.. لا تستوحشوا

.. لا تتكابروا"

وبعد عشرة أعوام وما آلت إليه الحال بعد الثورات قد يتوافق البعض مع رؤية قاسم حداد، وقد يخالفه البعض من منطق زمني أيضاً، لكن لا أحد يتفق على تجريد الضحية من مظلوميتها أو تحميلها أسباب ما آلت إليه، فكيف إذا كان الضحايا بالملايين، فالموقف السياسي شيء والموقف الأدبي شيء والموقف الأخلاقي شيء، لا يشفع النبوغ بأحدها للسقوط في الآخر، وقاسم حداد هامة عالية من هامات الأدب العربي المعاصر وله موقفه السياسي القديم الذي قضى بسببه عدة سنوات في السجون، لكن الحشود/ القتلى صرخت وتصرخ وما زالت تستغيث.