في أوّل زيارة رسمية إلى العاصمة موسكو، منذ سقوط نظام المخلوع بشار الأسد، في 8 كانون الأوّل 2025، أكّد الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أنّ سوريا "تحترم جميع الاتفاقيات الموقّعة مع روسيا".
وخلال اللقاء، بحث الرئيسان سبل إعادة ضبط العلاقات وتعزيز المشاريع المشتركة، حيث تركّزت المحادثات على تعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والأمن الغذائي والطاقة، مع التأكيد على تعميق الشراكة التاريخية بين البلدين.
وتصريح الرئيس الشرع، فتح ملف الاتفاقيات السورية-الروسية، التي شكّلت عماد العلاقات بين البلدين، منذ 2011، خصوصاً بعد التدخّل العسكري الروسي المباشر، في 30 أيلول 2015، وهي علاقات مزجت بين التعاون العسكري الواسع والامتيازات الاقتصادية طويلة الأجل.
واكتسب هذا التصريح أهمية خاصّة، نظراً لارتباطه بروسيا التي تدخّلت بكل ثقلها السياسي والعسكري لمنع سقوط نظام الأسد، ثم حاولت تعويمه مجدّداً، كما شاركته في ارتكاب مئات المجازر بحق الشعب السوري
اقرأ أيضاً.. ما عدا النووي.. روسيا جرّبت كل أسلحتها على أجساد السوريين
على مدى السنوات الماضية، اتسمت العلاقة بين سوريا وروسيا غالباً بـ"السرّية وعدم الإفصاح الشامل عن التفاصيل المالية"، وربما يكون هناك عقود أو تسويات داخلية لم تنشر علناً، لذا ما يستعرضه هذا التقرير، هو أبرز الاتفاقيات الموقّعة بين الطرفين، وما بقي منها، وما أُلغي أو أُعيد التفاوض بشأنه، استناداً إلى ما أُعلن عنه رسمياً، وما أشارت إليه العديد من التقارير إعلامية والمصادر مفتوحة.
الاتفاقيات العسكرية.. حجر الأساس في النفوذ الروسي
تعد الاتفاقيات العسكرية بين سوريا وروسيا الأكثر أهمية وتأثيراً على الأرض، إذ أسّست للوجود الروسي طويل الأمد، وسمحت بتغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، وأبرز هذه الاتفاقيات (قاعدة حميميم الجوية، قاعدة طرطوس البحرية).
- حميميم.. القاعدة الجويّة الروسية في اللاذقية
في 26 آب 2015، أي قبل التدخّل العسكري الروسي بأيام، وُقّع "اتفاق حميميم"، أو ما يُعرف رسمياً باسم "اتفاق تنظيم وجود مجموعة الطيران للقوات المسلحة الروسية على أراضي الجمهورية العربية السورية"، ودخل حيّز التنفيذ، في 14 تشرين الأوّل 2016، بعد مصادقة البرلمان الروسي عليه، وتوقيع الرئيس فلاديمير بوتين.
الاتفاق منح روسيا حق استخدام "مطار حميميم" في ريف اللاذقية ومرافقه، مجاناً ومن دون تحديد مدة زمنية، مع إعفاءات جمركية وضريبية، وحصانات واسعة للأفراد والممتلكات الروسية، وجرى تعزيزه بـ"بروتوكولات إضافية"، بين عامي 2017 و2020، شمل مساحات برّية إضافية.
- القاعدة البحرية الروسية في طرطوس
في 18 كانون الثاني 2017، أُبرمت اتفاقية منحت روسيا حق استخدام مركز الإمداد الفني البحري في طرطوس كـ"قاعدة عسكرية بحرية"، وذلك لمدة 49 عاماً (حتى 2066)، مع إمكانية التمديد التلقائي لـ25 عاماً أخرى.
ويسمح "اتفاق طرطوس" بوجود 11 سفينة حربية روسية (بما فيها النووية) في وقت واحد بمرفأ طرطوس، مع حصانات واسعة للمنشأة والأفراد، وقد صُدّق عليه في روسيا، نهاية عام 2017.
ومن أبرز هذه الحصانات، أنّ العسكريين الروس لا يُلاحقون قضائياً في سوريا، كما لا يمكن تفتيش القاعدتين أو دخولهما إلّا بإذن من القائد الروسي، ما يجعل اتفاقيتي "حميميم وطرطوس" من أكثر الاتفاقيات إثارةً للجدل من ناحية السيادة، إذ تمنحان روسيا حصانة شاملة داخل الأراضي السورية.
كذلك، فإنّ الاتفاقيتين تعتبران الركيزتين الأهم في النفوذ الروسي داخل سوريا، إذ شكّلت "قاعدة حميميم" الأساس القانوني للتدخل العسكري الروسي المباشر، نهاية أيلول 2015، في حين مثّلت "قاعدة طرطوس" أوّل وجود بحري دائم لروسيا في المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، خارج الفضاء السوفييتي السابق.
كذلك، توجد اتفاقيات تعاون عسكري تعود إلى ما قبل عام 2011، تتعلّق بتزويد سوريا بالأسلحة والعتاد وقطع الصيانة، وتسعى الحكومة السورية الجديدة للاستمرار بها، نظراً لأن الترسانة العسكرية السورية، روسيّة بالأساس.
-
الوجود العسكري الروسي بعد 2024
حتى نهاية العام 2024، بقيت الاتفاقيات العسكرية نافذة قانونياً، إلا أنّ التطورات السياسية التي تلت تغيّر السلطة في دمشق، في 8 كانون الأول من العام نفسه، دفعت إلى مراجعة ميدانية شاملة.
ففي البداية، تقلّص الوجود الروسي في قاعدتَي "حميميم وطرطوس"، بفعل إعادة التموضع خلال معركة "ردع العدوان"، لكنّهما بقيتا قائمتين من الناحية القانونية، كما أنّ مصادر روسية أكّد، أنّ "ملف القواعد" يُناقش حالياً ضمن إطار تفاوض سياسي مباشر بين بوتين والشرع.
وسبق أن أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، نهاية تموز الماضي، أنّه جرى الاتفاق مع الجانب السوري على تشكيل "لجنة وزارية مشتركة" لمراجعة الاتفاقيات الاقتصادية بين البلدين.
الاتفاقيات الاقتصادية مع روسيا
تضاعف الاهتمام بالاتفاقيات الاقتصادية بعد التدخل العسكري الروسي، أواخر العام 2015، حيث سعت موسكو إلى تأمين مصالحها طويلة الأمد في الطاقة والموانئ والموارد الطبيعية، خاصّةً الفوسفات.
وكانت روسيا وإيران تتنافسان على استثمار حقول النفط والغاز وعموم الثروات الطبيعية في سوريا، حيث سبق أن صرّح مسؤولون روس، في كانون الأول 2017، أنّ بلادهم من دون غيرها سيكون لها الأحقية في بناء منشآت الطاقة داخل الأراضي السوريّة، مشيراً إلى أنّه "يوجد فيها أكبر حقل فوسفات يمكن استثماره".
وفعلاً، تمكّنت الشركات الروسية، أبرزها "ستروي ترانس غاز" وذراعها اللوجستي "STGLogistic"، من الحصول على امتيازات حصرية لاستثمار مناجم الفوسفات في منطقتي تدمر وخنيفيس بريف حمص الشرقي، لمدة 50 عاماً، مع حصة مرتفعة من العائدات، كما أنّها أنشأت القوات الروسيّة مهابط طائرات مروحية في حقل الصوانة، الغني بالفوسفات أيضاً، شرقي حمص.
وبحسب تحقيق استقصائي، نُشر في نهاية حزيران 2022، فإنّ فوسفات بقيمة ملايين الدولارات صدرتها شركة روسية (خاضعة للعقوبات)، منذ عام 2018، إلى أسواق الأسمدة الأوروبية.
اقرأ أيضاً.. غارديان: "أموال ملطخة بالدم".. التجارة الأوروبية السرية بالفوسفات السوري
كذلك وقّعت الشركة الروسية ذاتها، عقداً لتشغيل وإدارة مجمّع الأسمدة الكيميائية في حمص، وهو الوحيد في سوريا لإنتاج الأسمدة بأنواعها (سوبر فوسفات، يوريا، نترات الأمونيوم)، وذلك بعقود طويلة الأمد.
أيضاً، مُنحت روسيا، عام 2019، عقد استثمار لإدارة وتشغيل مرفأ طرطوس واستخدامه لأغراض اقتصادية وتجارية، وهو امتداد لاتفاق القاعدة العسكرية، ويمتد أيضاً إلى 49 عاماً مع إمكانية تجديدة لـ25 عاماً إضافية، حيث يستثمر الجانب الروسي نحو 500 مليون دولار في تحديث المرفأ.
ويعتبر ميناء طرطوس، ثاني أكبر ميناء بحري في سوريا، وتبلغ طاقته الاستيعابية نحو أربعة ملايين طن سنوياً، ونحو 20 ألف حاوية كل عام، ويتضمن مركز دعم لوجستي للبحرية الروسية نُظّم، عام 1971، بموجب اتفاقية ثنائية مع الاتحاد السوفييتي.
- التنقيب البحري عن الغاز في سوريا
في قطاع الطاقة، وُقّع أول عقد تنقيب بحري مع شركة "سويوز نفت غاز" (Soyuzneftegaz)، عام 2013، للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية، ويشمل العقد المعروف بـ"عقد عمريت البحري"، عمليات تنقيب في "مساحة 2190 كلم مربع" لمدة 25 عاماً، لكنه توقّف عملياً، أواخر عام 2015، عقب التدخل الروسي المباشر وتصاعد العمليات العسكرية.
وحينذاك، أفادت وكالة "تاس" الروسيّة، بأنّ العقد وُقّع بين وزارة النفط والثروة المعدنية السورية وشركة "سويوز نفت غاز"، لافتةً إلى أنّها "أصبحت أوّل شركة روسية وأجنبية تُمنح حق التنقيب والإنتاج البحري في سوريا".
في أواخر العام 2020، أعلنت شركة إنتاج النفط الروسية متوسطة الحجم "تات نفط"، إنّها تخطّط لاستئناف التنقيب في سوريا، وذلك بالتزامع مع منح نظام الأسد المخلوع، شركتي "ميركوري" و"فيلادا" الروسيتين، ترخيصاً لافتتاح فرعين لهما في دمشق، بهدف التنقيب عن النفط وتنميته وإنتاجه.
وفي مطلع العام 2021، مُنحت شركة "كابيتال" الروسية، حق التنقيب الحصري عن النفط قبالة الساحل السوري، تحديداً في "البلوك البحري رقم واحد" في المنطقة الاقتصادية الخالصة لـسوريا في البحر المتوسط مقابل ساحل طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية اللبنانية بـ"مساحة 2250كم مربع".
وسبق أن كشفت "هيئة المسح الجيولوجي الأميركية"، في آذار 2010، عن احتياطي كبير في حوض شرق المتوسط، قدّرته بنحو 1.7 مليار برميل من النفط، و122 ترليون متر مكعب من الغاز، يقع جزء منها في المياه الإقليمية السورية.
وأشار موقع "تركيش بولسي"، أنّه من المرجّح أن تحصل الشركات الروسية على "حصة الأسد" من استثمارات قطاع النفط والغاز في سوريا، خاصّةً أنّ شركة "تات نفط" الروسية فازت، بالمناقصة الدولية المفتوحة، ووقعت عقد تنقيب واستخراج النفط والغاز على أساس "اتفاقية تجزئة المنتجات في سوريا"، منذ العام 2010.
كذلك فيما يخص الآثار السورية، فقد كشفت مصادر خاصّة لـ موقع تلفزيون سوريا، أواخر العام 2020، أنّ القوات الروسية تدير عمليات تنقيب واسعة عن الآثار في المنطقة الوسطى، وبشكل خاص في منطقة تدمر شرقي حمص، وذلك بهدف نقلها إلى الأراضي الروسية تحت إشراف خبراء روس.
"إلغاءات وتعليق اتفاقيات"
بعد إسقاط نظام المخلوع، أعلنت الإدارة السورية الجديدة، أواخر كانون الثاني 2025، إلغاء عقد إدارة "مرفأ طرطوس التجاري" رسمياً مع شركة "ستروي ترانس غاز".
وشكّل ذلك، حينذاك، نقطة تحوّل في العلاقات الاقتصادية السورية-الروسية، إذ يُعدّ أول خطوة علنية في تقليص النفوذ الروسي داخل القطاعات المدنية، إلّا أنّ الشركة المشغّلة نفت إلغاء عقدها.
أمّا "عقد التنقيب البحري"، فقد توقّف عملياً من دون إعلان رسمي عن إلغائه، ما يُشير إلى احتمال إعادة التفاوض بشأنه مستقبلاً، وإعادة تقدير الحصص والامتيازات.
تبقى اتفاقيتا "حميميم وطرطوس" العسكريتان، الركيزتين الأهم في النفوذ الروسي داخل سوريا، إذ أرستا وجوداً طويل الأمد يصل نظرياً حتى عام 2066 (قابل للتمديد حتى 2091).
أمّا "عقود الفوسفات"، فتمثّل أبرز المكاسب الاقتصادية لروسيا، كونها تتيح الوصول إلى أهم الموارد الاستراتيجية في البلاد، خاصّةً أنّ سوريا تعد من أهم بلدان العالم باحتياطي الفوسفات، والذي يقدّر بـ1.8 مليار طن.
العلاقات السورية-الروسية بعد "الأسد"
اليوم، بعد إسقاط نظام المخلوع بشار الأسد، تدخل العلاقات السورية-الروسية مرحلة جديدة من إعادة التقييم، خاصّة فيما يخص الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، فالزيارة التاريخية للرئيس الشرع إلى موسكو لم تكن مجرّد لقاء بروتوكولي عقب إسقاط "حليف بوتين"، بل بداية تفاوض صعب على إرث من الاتفاقيات، التي ربطت دمشق بموسكو لأكثر من نصف قرن.
وقد أعادت تصريحات الرئيس الشرع من موسكو تسليط الضوء على الطبيعة غير المتكافئة لبعض الاتفاقيات، ولا سيّما تلك التي تمنح روسيا حصانات شبه مطلقة أو امتيازات طويلة الأمد في قطاعات استراتيجية.
ورغم أنّ الحكومة السوريّة الجديدة، لم تُعلن نيتها الانسحاب من هذه الاتفاقيات، إلا أنّ مراجعتها باتت مطروحة ضمن حوار سيادي-اقتصادي جديد مع الحكومة الروسية.
يُشار إلى أنّ تأكيد الرئيس السوري أحمد الشرع على "احترام سوريا للاتفاقيات الموقّعة مع روسيا" لا يعني بالضرورة بقاء النفوذ الروسي كما كان، إذ تشير مصادر مقرّبة من الحكومة إلى أنّ المعادلة الجديدة التي تعتمدها الدولة تقوم على مبدأ: "لا إلغاء بلا تفاوض، ولا التزام بلا سيادة".