بيروت تُحيي "أُميات" سرور مجدداً

2019.10.22 | 11:28 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد واحد وثلاثين عاماً تعود شتائم الشاعر المصري نجيب سرور النابية في قصائده التي كانت حينها صرخة فاقعة في وجه الظلم والفساد وتعنت السلطة، حية لكن هذه المرة في بيروت .

لايمكن للمراقب لمظاهرات لبنان التي لم تهدأ وتيرتها منذ خمسة أيام إلا أن يلحظ خصوصية وشكلاً جديداً لم تعهده مظاهرات الشارع العربي بعد اشتعالها عام ٢٠١١، وكشكل لبنان الذي اجتهدت آلة الإعلام في تشكيله وتصديره تطالب هذه المظاهرات على وتيرة واحدة بإسقاط النظام على وقع البهجة والسخرية الفجة باعتبارها أولاً الأكثر ملاءمة لمأساوية الوضع في المدينة الغارقة في فساد القوى السياسية، وثانياً باعتبارها جزءاً لايتجزأ من شكل المجتمع اللبناني وتركيبته الخاصة. 

لكل شعب عربي طريقته الخاصة بالتعبير عن غضبه وبؤسه، إلا أن المشهد في لبنان يبدو جديداً وفريداً، فبينما سادت النكتة مظاهرات مصر، وهتاف "جنة جنة.. يا وطنا" مظاهرات سوريا، والكندانة مظاهرات السودان، وتعاطف الشرطة في مظاهرات الأردن، تتسيد الشتيمة والفن مظاهرات لبنان، وأسباب ذلك باعتقادي ليست صعبة، فكما كان الفن والانفتاح زمناً طويلاً شاهداً دالاً على المجتمع اللبناني في سهراته وحفلاته وإعلامه، ها هو يتكرس الآن بوضوح في طريقة تعبيره عن يأسه وفورانه. 

يرد الجمعُ على نغمة واحدة بشتيمة يعرفها العرب جميعاً في عراكاتهم

بتناغمٍ عال يبدو أنه جاء من توحد الوجع والظلم تماماً كما يتوحد أعضاء الكورال في غنائهم يشتم اللبنانيون بصوت رجل واحد ساستهم واحداً واحداً مطالبين بمطلب يبدو الأعلى سقفاً في تاريخ الاحتجاحات اللبنانية وهو إسقاط النظام، الفيديوهات حول ذلك والتي تستدعي التوقف كثيرة، في واحد منها، يهتف شاب محمول على الأكتاف بمكبر الصوت باسم النواب الذي يُعتقد بمسؤوليتهم عما آلت إليه الأحوال، يصمت الشاب المحمول أقل من ثانية، ثم يأتي الرد مدوياً، يرد الجمعُ على نغمة واحدة بشتيمة يعرفها العرب جميعاً في عراكاتهم وشجارتهم، لكنها هنا تبدو ملائمة تماماً ولا تخدش الحياء كما كانت حين كتبها الشاعر المصري نجيب السرور في قصيدته الشهيرة "أميات"، وكما تصدر وزير الخارجية باسيل جبران المشهد السياسي داخلياً وخارجياً في السنوات الأخيرة يبدو أنه يتصدر أيضاً حفلات الشتائم التي تضج بها ساحات بيروت وباقي المدن، بشكل يجعله الشخصية السياسية الأكثر حضوراً في نابيّات اللبنانيين بعد حزب الله. 

قد يتساءل المتابع لهذه المظاهرات، التي تطورت مطالبها من تحصيل الاستحقاقات الخدمية إلى إسقاط النظام، هل يتظاهر اللبنانيون أم يحتفلون؟ هل يحتجون فعلاً أم أنهم في نزهة؟ 

قبل يومين احتشد أكثر من مليون مواطن لبناني في شوارع بيروت وبقية المدن، يهتفون ويرقصون وكأنهم جمهور في حفلة غنائية صاخبة، من كافة الطوائف ومن كافة الأحزاب يغنون خلف "الديجي" الأغاني المشهورة التي يرقص عليها سواهم في الأعراس والحفلات فقط، وفِي ناحية أخرى قد يقيم أحدهم حفلة شواء وسط ساحة الحمرا على وقع التظاهرات، ويقرر آخر أن يفتح مركز تصفيف للشعر في الشارع، هذا عدا الأراجيل والألعاب والدبكات، كلها أساليب جديدة لم نعهدها في المظاهرات الأخرى. 

ولعل مشاركة الفنانين اللبنانيين مظهراً نادراً آخر يضاف لهذه الانتفاضة، فعلى عكس ما فعله رموز الفن والغناء في مصر مثلاً، أعلن عدد لا بأس به من الشخصيات الفنية في لبنان موقفاً مسانداً ومتضامناً وفِي كثير من الأحيان تعداه إلى المشاركة الفعلية، عبر الوجود في الشارع أو عبر إعلان التأييد على منصات التواصل الاجتماعي، قد يفسر البعض الأمر على أنه عائد إلى أنهم بشكل أو بآخر يتبعون القوى التي تمثلهم في الحياة السياسية، وهذه للمفارقة أعلنت جميعها تضامناً على مظاهراتٍ خرجت أساساً ضدها، مع وجاهة هذا السبب إلا أن الصمت كان خياراً متاحاً أيضاً، وعليه فتضامن المشاهير اللبنانيين ليس عادياً في مشهد الاحتجاجات العربية. 

مظاهر عديدة إذن تشير إلى خصوصية الاحتجاجات في لبنان النابعة بدورها لاشك من الخصوصية اللبنانية نفسها وشكل المجتمع والحياة السياسية ما بعد الحرب الأهلية، ويمكن القول أن جيل ما بعد ٨ و ١٤ من آذار استطاع أخيراً أن يبتدع خطاباً جديداً يعلو فوق خطاب العنصرية في خطابات باسيل، وأضاف إلى خصوصية لبنان نشيداً خالداً لانتفاضة ٢٠١٩ .. إذ يُحيي من جديد جرأة نجيب السرور ويجعلها رداً مثالياً على فداحة الواقع..