"بيبي" السيد رئيس الشعب (2)

2021.06.01 | 06:50 دمشق

4007611-731827769.jpg
+A
حجم الخط
-A

حين يرى دهشة الآخرين من طريقة حياته الرئاسية، سيعلّق بيبي: "العالم مجنون، مجنون حقاً. فالناس مندهشون من الأشياء العادية. كل ما أفعله هو أني أعيش مثل غالبية الشعب، وليس مثل الأقلية الثريّة. يجب على الرؤساء أن يعيشوا كما تعيش شعوبهم، وألّا يعمدوا، بعد الوصول إلى المنصب، لتقليد الأغنياء".

ولد خوسيه ألبرتو موخيكا في 20 مايو 1935، لأب من أصول إسبانية "باسكية"، وأم تنتمي لعائلة مهاجرين إيطاليين. كان والده مزارعاً صغيراً أفلس قبل وقت قصير من وفاته، حين كان ابنه في السابعة من العمر. عمل موخيكا صبيّ توصيل طلبات لحساب مخبز محلي، وباع الزهور لمساعدة عائلته. في شبابه، نشط في الحزب الوطني، وفي منتصف الستينيات، انضم إلى حركة "Tupamaros" المشكَّلة حديثًا في بلده الأرغواي، وهي جماعة سياسية تؤمن بالكفاح المسلّح، قامت بمهاجمة المقار الحكومية والثكنات ومراكز الشرطة، وخطفت من تعتبرهم شركاء للحكومة. الأشهر بين تلك العمليات كانت اختطاف ومن ثم قتل "دان ميتريوني" المسؤول الأميركي الذي أُرسل إلى الأرغواي كمستشار لتعليم الشرطة والجيش استخدام "التعذيب العقلاني الفعّال" عام 1970. قامت توباماروس بقتل العديد من أفراد الجيش والشرطة في المواجهات، كما استولت على أموال بمهاجمة البنوك. شارك موخيكا في العديد من عملياتها بما فيها قيادة السطو على مصرف. في تلك العملية سيتعرف على "لوسيا" زوجته المستقبلية، فقد كان لها دور في العملية، وكانت أختها من المشاركين المباشرين بها. كما قاد عام 1969 واحدة من ست مجموعات خلال عملية الاستيلاء القصير على قرية "باندو"، وهي بلدة قريبة من العاصمة "مونتيفيديو".

كانت عمليات توباماروس، على عنفها، تبدو للسكان المحليين ذكيّة، بل وخفيفة الظل أيضاً

حازت توباماروس على الكثير من التعاطف في الأوساط الفقيرة، فقد بدت "روبنهوديّة" في عملياتها. بعد السطو على أحد الكازينوهات ستعيد المنظمة في اليوم التالي صندوق الإكراميات الخاص بالعمال إلى مكان العمليّة. وفي عملية استيلاء على شاحنات لشركة توزيع غذائيات ومواد البقالة، سيتم توزيع حصيلة العملية على فقراء إحدى ضواحي "مونتيفيديو". كانت عمليات توباماروس، على عنفها، تبدو للسكان المحليين ذكيّة، بل وخفيفة الظل أيضاً. في استيلائهم على بلدة باندو وصلوا إليها وتجولوا فيها كمشاركين في موكب جنازة وهمية، الأمر الذي سيتم تناوله في الأورغواي ومحيطها الإقليمي على أنه أداء مسرحي جريء. وذهب البعض إلى حدّ إطلاق تسمية "جيش التحرير الرومانسي" على توباماروس. أما في صحافة الأوروغواي فقد منع تداول اسم المنظمة واستعيض عنه بتعبير "جماعة الفتنة".

في مارس 1970، أصيب موخيكا بالرصاص بينما كان يقاوم الاعتقال في حانة في "مونتيفيديو". جَرح خلال الاشتباك شرطيين وأصيب هو بخمس رصاصات، ثلاثٌ في ساقيه واثنتان في البطن كانت إحداهما خطيرة، وسوف تتسبب له بالكثير من المشاكل في الأمعاء خلال فترة السجن الطويلة. في سبتمبر عام 1971، كان موخيكا واحداً من بين 106 أعضاء في "توباماروس" فروا من سجن "بونتا كاريتاس"، عن طريق حفر نفق يصل من داخل السجن إلى غرفة في منزل قريب. اعتبرت عملية فرار السجناء السياسيين تلك الأكبر في التاريخ.

أعيد القبض على موخيكا للمرة الأخيرة عام 1972. في الأشهر التي تلت اعتقاله، شهدت البلاد ما يشبه انقلاباً عسكرياً عام 1973. قامت القوات المسلحة بطلب من الرئيس "خوان بورديبيري" بحلّ البرلمان، وحظر الأحزاب السياسية وإعلان عدم قانونية النقابات والمنظمات الطلابية، وأنشأت ما دُعي بالمجلس المدني العسكري. إثر ذلك، اختارت السلطات الجديدة موخيكا وثمانية من القادة الآخرين للبقاء في ظروف سجون عسكرية قاسية كانوا يتعرضون فيها للتعذيب. القادة التسعة اعتُبروا رهائن سيتحملون المسؤولية ويقتلون، فيما لو قامت الحركة بأية عمليات جديدة. قسموا إلى ثلاث مجموعات كل مجموعة من ثلاثة سجناء كانوا يُنقلون من سجن إلى آخر في طول البلاد وعرضها. حسب مندوب منظمة العفو الدولية خلال جلسة استماع في الكونغرس الأميركي، كان في الأوروغواي التي لا يزيد عدد سكانها على 3 ملايين في ذلك الوقت، أعلى عدد من السجناء السياسيين في العالم.

عموماً أمضى موخيكا أكثر من 13عامًا في الأسر، خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، منها أكثر من عقد في الحبس الانفرادي. لأكثر من عامين، بقي في قاع حوض قديم لسقاية الخيل. وقضى أكثر من عام دون استحمام. في فترة أخرى سيحظر عليه استعمال الحمام أكثر من مرة واحدة في اليوم، فراح يبول في زجاجات المياه ثم يتركها لتبرد ويستقر الراسب في القعر فيشربها بسبب ندرة الماء. في تلك الظروف المزرية عانى موخيكا عدداً من الأزمات الصحية، لاسيما المشكلات النفسية والعقلية التي كادت أن تكسره. في الزيارة الوحيدة التي تمكنت أمه من تحصيلها أحضرت له من بين حاجّيات أخرى مبولة "نونيّة"، لكن حرّاس السجن صادروها ولم يسلموها له. تصادف بعد فترة وجود احتفال في الثكنة لمناسبة وطنية، استغل بيبي تلك اللحظة وراح يصرخ بأعلى صوته مطالباً بنونيّته وتلافياً للحرج أمام الضيوف أمر القائد بإعطائها له. فيما بعد ستتحول تلك المبولة إلى رمز لانتصاره، وسوف تنتقل معه من سجن إلى آخر، وحين ستفقد وظيفتها سوف يحوّلها إلى أصيص لزراعة الورد. في فيلمه المميز (A Twelve-Year Night) سيعمد المخرج "الفارو بريشنر" إلى التركيز على موخيكا وهو خارج من السجن عام 1985. كان يسير لملاقاة أمه وهو يحمل "نونيته" المتوّجة بأوراق خضراء بين يديه.

على الرغم من أن زميليه في الزنزانات القريبة، إلوتيريو هويدوبرو (وزير الدفاع من عام 2011حتى وفاته عام 2016)، وماوريسيو روسينكوف (شاعر وروائي وكاتب المسرحي)، تمكّنا في كثير من الأحيان من التواصل مع بعضهما البعض، عبر النقر على الجدران واستخدام شيفرة "مورس" التي يعرفها السجناء، إلا أنهما لم يتمكنا من إشراكه في تلك المحادثات. في تلك الفترة عانى موخيكا من حالات الذهان والهلوسة السمعية. اعتقد بوجود جهاز تنصت مخبأ في الزنزانة وأن هناك شريحة تم زرعها في دماغه أثناء علاجه، لتصدر ذاك الصوت الرهيب في رأسه. الأمر الذي جعله في عديد المرات يضع الحجارة في فمه كي لا يصرخ، وهو يستمع إلى ذاك الصوت الوهمي.

"ليس الفقير من يمتلك القليل جداً. الفقير هو من يتوق دائماً إلى المزيد"

العديد من رفاق توباماروس لم يوافقوا موخيكا في تحوّله إلى "الاشتراكية الواقعية" اللّينة. رفيقه "جورج زابلز" سيتهمه بأنه وآخرين تركوا مبادئهم في زنزانات السجن. أما بيبي فيردّ بأن "بعض الرفاق القدامى لا يفهمون معركتنا لمواجهة مشاكل الناس اليومية، ولم يدركوا أنّ الحياة ليست مجرد أوهام وتخيلات". وعلى الضفة الأخرى لن نستغرب أن ينتقده خصومه السياسيون ويتهموه بأنه يمارس "شعبوية غير منتجة" أساءت إلى الأورغواي وإلى مقام الرئاسة.

في مقابلة معه سيقتبسُ "أفقر رؤساء العالم" عن الفيلسوف الروماني سينيكا قوله: "ليس الفقير من يمتلك القليل جداً. الفقير هو من يتوق دائماً إلى المزيد". وسيبوح "بيبي" لسيمون روميرو مراسل نيويورك تايمز "أسلوب حياتي الرئاسي الهادئ قد يبدو غير عادي. لكنه اختيار شخصيّ واعٍ بالتخلّي عن إغراءات القوة والسلطة والثروة".

كلمات مفتاحية