بيان قيد إلكتروني

2020.09.16 | 00:06 دمشق

lbnan.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما أكتب لموقع تلفزيون سوريا أحاول أن يكون حديثي عن الشأن السوري، ولكنني أستدل على ما أريد قوله، أحياناً، بأخبار من دول أخرى، منها ما أعلنه وزير الداخلية اللبناني، الأسبوع الماضي، عن إنجاز خدمة الحصول على بيان قيد عائلي عبر الإنترنت، دون مراجعة أية دائرة حكومية.

وهنا أضيف أن هذا الأمر متحقق في الدولة التركية التي تستخدم تطبيق (e-Devlet)، الذي يوفر على المواطن التركي عدداً كبيراً من المراجعات الإدارية التي تهلك الجسم وتهدر الوقت وتخنق الروح. وأكاد أجزم أن معظم الدول المتطورة تقدم مثل هذه الخدمات لمواطنيها، وحتى الدول العربية الغنية، كدول الخليج، تشتري هذه التقنيات من الآخرين وتوفرها لمواطنيها. 

تذكرني هذه الأخبار بفصل من قصة طويلة كتبها صديقي عبد المجيد جواد محمود العبد المجيد، وأرسلها إلي لكي أساعده في صياغتها أدبياً، يتحدث فيها عن ذلك اليوم الذي ذهب فيه ليسجل السيارة "الميكروباص" في مديرية النقل البري بإدلب. يقول: لو أنني عشت - يا أبو مرداس الغالي - مئة سنة، ومتُّ دون أن أضطر لتسجيل الميكروباص في المواصلات، لبقيتُ جاهلاً ما يجري داخل جدران تلك المديرية.

قبل أن تدخل المبنى تكتب "عريضة". إنها ورقة مطبوعة ذات فراغات لا تتسع لأكثر من عشر كلمات، ومع ذلك لا يجوز أن تملأها بنفسك، بل تذهب إلى حيث يصطف عدد لا بأس به من كتاب "العرضحالات" أمام باب المديرية، فيكتب لك أحدُهم واحدة، يشرح فيها ما تريد، ثم يلحس الطوابع بلسانه ويلصقها.. وأنت تأخذ العريضة وتسأله:

- شقد بتؤمر؟

فيقول لك: اللي بيطلع من خاطرك، العَطَا قيمة.

فتعطيه الذي فيه النصيب، وتهجم باتجاه مدخل المديرية، وهناك يجب عليك أن تغمض عينيك وتسد منخريك وأذنيك، وتتوكل على الله وتلقي نفسك في خضم الناس المتدافعين، وتخبط بيديك ورجليك لئلا تفطس.. وتستمر بالتخبيط والتجديف وأنت تسأل مَن تصادفه عن الموظف المختص بمعاملتك، فلا تلقى جواباً، لأن كل واحد من الموجودين يقول: اللهم أسألك نفسي. فتتابع طريقك على غير هدى.

عندما تصل، أخيراً، إلى الموظف المسؤول عن هذا النوع من المعاملات، لا داعي لأن تسلم عليه، لأن غالبية موظفي هذه المديرية ذوو نفسيات حامضة، لا يردون السلام، وعندما يتكلمون يقطّعون الكلام، ويكتفون بلفظ نصفه، لذا يكفي أن تناوله العريضة، وهو يلقي عليها نظرة ويقول لك وهو يشير بيده:

- نَى وَيْ.

يعني (استنى شوي). ويشير بيده للآذن أن يأتي، فيأتي. يسجل الموظف رقمَ سيارتك على قصاصة ورقية، ويناولها للآذن ويقول له: (ايبا تَوْدَع) يعني (جيبها من المستودع).

الآذن الذي صادفتُه في هذه المديرية أدهشني. أنا أعرف أن الموظفين في دوائر الدولة يُحالون على المعاش في سن الستين، وأما هذا فلا أظن عمره يقل عن ثمانين سنة، وقد علمتُ، فيما بعد، أنه أحيل على المعاش قبل سنوات بعيدة، وبقي يداوم بلا راتب، لأن الدخل الذي يحصل عليه لقاء إحضار الأضابير أكبر من راتب مدير عام. 

قال الآذن للموظف: تكرم أستاذ. من عيوني.

وشرع ينظر إلي، ويتأملني، ويغير مركز ثقل جسمه من الساق اليمنى إلى اليسرى، وبالعكس.. إلى أن أيقنت أن حَرْنَتَه هذه ليست لله، فمددت يدي إلى جيبي وناولته خمس ليرات. وسألته:

- منيح هيك؟

لم يرد وضع قطعة النقود في جيبه ومشى باتجاه غرفة داخلية كتبت عليها عبارة "مستودع الأضابير" ببطء شديد، وغاب داخلها. مضى أكثر من ربع ساعة وأنا واقف، وبين الحين والآخر أسأل الموظف عنه، فيدير وجهه عني، ويرفع سماعة الهاتف، ويطلب رقماً، ويتكلم مع شخص آخر في موضوع محدد، وهو آخر مباراة لـ "نادي أمية" أقيمت في ملعب الباسل.

- شفت شلون سعيد يازجي رفع له الطابة لحازم حربا؟ عطاه اياها مقشرة، ما بقي غير حازم يحطا في الجول، وحازم هداف، نطحها براسه ع الأرض، بَيَّضُه إياها للجولار. آ؟ مين؟ أي، أبو يوسف. فَرَّطني من الضحك، لما وصل برهان صهيوني لقدام الجول والجمهور عم يصيح: عَبّي، وبالصدفة برهان تفشكل، ووقع في منطقة الجزاء، صار أبو يوسف يصيح من المدرج الشرقي: العمى هادا بدل ما يعبّي صار يفضّي.. كه كه كه كه.

ويضحك الموظف حتى يكاد أن يشخ في ثيابه.. وأنا، يا أبو المراديس، قلبي متعلق بالآذن، طوال ما أنا واقف أختلس النظر إلى الجهة التي ذهب منها، فلا أرى له أثراً. وفجأة، خطر لي خاطر، رفعت نفسي فوق الكونتوار الخشبي، ومططت رقبتي، وصرت أنظر إلى الداخل، رأيت الآذن جالساً وراء طاولة صغيرة، وأمامه إبريق من الشاي، يسكب منه في كأس ذي فتحة واسعة، ويحمل كعكة، يغطسها في الشاي، ويأكل منها على مهله. طق عقلي. قلت للموظف:

- هادا الآذن اللي راح يجيب الإضبارة عم ياكل!

قال لي وهو يقطع الكلمات: طَبْـ عَن.. ياكل. ليك.. لوم.. بشر بشر. يجوع. اوع.

فهمت، تقريباً، أنه يسوغ له تصرفه، فهو بشر، ويجوع، قلت له:

- مع أني ما قصرت معه، والله العظيم عطيته خمس ليرات إكرامية.

قال الموظف: تنى أوف. (استنى لشوف).. 

ورن الجرس المثبت على المكتب. وإذا بالآذن يأتي، ويعيد الورقة التي كتب عليها رقم الإضبارة للموظف ويقول له:

- ما لقيت الإضبارة أستاذ. 

مددت يدي إلى حيث يقف، سحبته نحوي، وهمست له:

- إذا عطيتك 25 ليرة بيمشي الحال؟

لم يحرك فمه. حرك يده إلى الأمام. تناول قطعة الـ 25 ليرة، أخذها، غاب دقيقتين وعاد حاملاً الإضبارة، وضعها أمام الموظف، دون أن يكلف نفسه عناء تبرير الكذبة الأولى.

تنفستُ الصعداء وأنا أرى الموظف يقلب محتويات الإضبارة، ثم قال:

- رو.. مالك أصلي، نقابة.

وأخرج بعض الأوراق، خرزها، وناولني إياها..

طلبت منه إعادة الجملة التي لم أفهم منها شيئاً.. فقال لي بنزق:

- عم نحكي عربي، بدك تروح مع المالك الأصلي على نقابة السائقين، وتعملوا تنازل عن الملكية (فَرَاغة)..

وأدار ظهره، وعاود الاتصال بالهاتف: ألو، نسيت أقلك، الجمعة الجاية بدنا نلعب مع فريق تشرين، راح تكون مباراة سليماني يا خاي..

أخذت الأوراق التي تجمعت لدي، وخرجت من المديرية، أسندت ظهري إلى الجدار وأشعلت سيجارة وصرت أشحط منها وأنظر إلى الخلف متوقعاً أن الدخان سيخرج من هذه الجهة. تقدم مني شاب لا أعرفه، وقال: أيش وجعك.

حكيت له أن السيارة لعائلة كلها ورثة، وعائلة البائع معقدة أكثر، فالمالك متوفى، وثلاثة من الورثة أعطوك أعمارهم. 

قال لي وهو يحرك أصابعه كناية عن فت العملة: بتنحل. بتدفع؟

قلت له: بدفع.

قال: تعال معي.

مشيت وراءه إلى النقابة، وفي الطريق أخذ مني خمسمئة ليرة، وبمجرد ما دخلنا النقابة مشى نحو أحد الموظفين، فتح درجَه وأسقط الخمسمئة ليرة فيه، وقال له:

- بمعيتك عمي أبو جمعة، بدنا نسجل الميكرو.

وأغلق الدرج بيده، وقال لي:

- طالما عند ميكرو لازم تدير بالك على عمك أبو جمعة، إذا سافر معك ع حلب ركبه في "الجيم"، ووصي المعاون ما ياخد منه أجرة، وضيفه قرص شعيبيات وكاظوظة ستيم. هادا أبو جمعة إله علينا كتير.

أقسم بالله العظيم، يا أبو مرداس، أنني، حتى الآن، لم أعرف كيف حلَّ أبو جمعة معضلة غياب المالك الأصلي وورثته عن عملية الفراغة، وكون أربعة منهم يرقدون تحت التراب.. أبو جمعة أشار لي أن أقترب منه، وحمل كيساً مملوءاً بالنقود، وناولني إياه، وقال لي إن المطلوب مني أن أسلم هذا المبلغ للبائع بحضوره هو وزميله الأستاذ ياسين.

اندهشت، قلت له: وين البائع؟

قال لي: عطيني إدنك. 

أعطيته أذني فهمس لي: لا تكتر أسئلة وعلاك. متلما بقلك اشتغل.

أحضروا رجلاً من الغرفة الداخلية، أوقفوه قبالتي، سأله أبو جمعة:

- إنته بعت الميكرو لورثة إبراهيم محمود العباس؟

قال الرجل: نعم.

- وقبضت كامل الحق من وكيله عبد المجيد جواد عبد المجيد؟

- قبضت.

غمزني أبو جمعة، فسلمته النقود التي كانت في الكيس، وهو صافحني وقال لي:

- توكلنا على الله، بعناك الميكروباص، إنشالله بتشوف على وجهه الخير..

وصار الحاضرون يرددون عبارات من قبيل مبروك، الله يوفق، تتهنوا.. وأبو جمعة ناولني ورقة وقال لي:

- روح مع وجهك عَ المواصلات. وسجل الميكرو. ألف مبروك.

***

تعقيب: بقيت هذه الإجراءات متبعة في سوريا حتى الآن، والكومبيوترات الموجودة في هذه المديريات غالباً ما يستخدمها الموظفون للعب الشدة.

كلمات مفتاحية